رغم مرور أكثر من نصف قرن على اندلاع الكفاح الوطني الصحراوي، لا تزال القضية حاضرة في المحافل الدولية والضمائر الحية، مدعومة بجهود مستمرة لتثبيت حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره. فالأحداث التي شهدتها الأسابيع الأخيرة، من ندوة "اليوزي" في كوسوفو، إلى احتفالية "الخيمة الصحراوية" في إيطاليا، وصولاً إلى فعاليات الذكرى 52 لتأسيس الجبهة في إسبانيا، تكشف عن خارطة تضامن واسعة تعكس تصاعد الالتفاف الدولي حول عدالة القضية الصحراوية. بين بيانات سياسية وشهادات إنسانية، وعروض فنية ومواقف مؤسساتية، تتكامل الأصوات لتعيد التأكيد على أن نضال الصحراويين لم يعد صوتاً معزولاً، بل قضية أممية تتجدد في كل محفل حرّ.
في العاصمة بريتشينا، احتضن "الاتحاد العالمي للشباب الاشتراكي" (IUSY) مؤتمراً نوقشت خلاله القضايا العادلة للشعوب المضطهدة، وكان للقضية الصحراوية مكانة محورية. وقد اعتمد الاتحاد، بالإجماع، توصيتين تاريخيتين: الأولى بالتعاون مع منظمة "دي فالكن" الألمانية، وُجّهت لتسليط الضوء على التاريخ النضالي العريق للشعب الصحراوي في مواجهة الاستعمار الإسباني، ومن بعده الاحتلال المغربي. أما التوصية الثانية، فقد تمحورت حول "حق الشعوب في تقرير المصير" باعتباره مبدأ راسخاً في القانون الدولي، ودعت إلى تبني مواقف أكثر صلابة لصالح الشعوب الخاضعة للاحتلال، وعلى رأسها الشعب الصحراوي.
ما ميز هذا المؤتمر، لم يكن فقط طابع الإجماع أو صدى الكلمات، بل قوة الحضور الصحراوي الذي قدم حججاً سياسية وقانونية دامغة حول شرعية نضاله السلمي. كما شارك الوفد الصحراوي في ورشات عمل ناقش فيها التصاعد المقلق للانتهاكات ضد حقوق الإنسان في المناطق المحتلة، وناشد الحركات الشبابية العالمية للوقوف إلى جانب صمود شعب يواجه القمع بالمزيد من الأمل والإبداع. وبهذا، رسخ المؤتمر صورة الصحراء الغربية كرمز للمقاومة السلمية والصمود الشعبي الذي لا يعرف الاستسلام.
من إيطاليا.. ربع قرن من الوفاء لروح الخيمة الصحراوية
وفي مدينة ريجيو إيميليا الإيطالية، كان للثقافة والمقاومة موعد آخر، في الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس جمعية "الخيمة الصحراوية"، التي تحولت على مدار ربع قرن إلى منصة حوار وتبادل معرفي وثقافي حول الصحراء الغربية، قضيتها وشعبها. ولم يكن الحدث مجرد احتفال رمزي، بل مساحة نابضة بروح التضامن. تنوعت فعالياته بين الأدب والشعر والموسيقى، وكان أبرزها تقديم كتاب "طقوس الخيمة"، الذي ضم مختارات من القصص والقصائد التي جسّدت روح الشعب الصحراوي ومقاومته الثقافية العميقة. شاركت في تقديم الكتاب ممثلة جبهة البوليساريو بإيطاليا فاطمة المحفوظ، إلى جانب المترجمة الإيطالية جوليا مالتيز، في مداخلة مؤثرة كشفت عن عمق التفاعل الإنساني مع مأساة شعب يُحرم من أبسط حقوقه السياسية، لكنه يصر على الحفاظ على هويته وتاريخه.
كما أضفى الشاعر الصحراوي لمام أبيشة لمسة وجدانية خاصة على الحدث عبر قراءته الشعرية المؤثرة، مؤكداً أن الشعر لا يزال سلاحاً وجدانياً في معركة الهوية والمقاومة. وفي لفتة تفاعلية ملهمة، أُقيم حفل توزيع جوائز لمسابقة فيديو بعنوان "آثار أقدام في الريح"، والتي حولت الشعر الصحراوي إلى أعمال بصرية مبهرة، أبدعتها أنامل شبابية تؤمن بأن الجمال والإبداع هما أيضاً أشكال من أشكال النضال.
من إسبانيا.. لاريوخا تحتفي بالذاكرة والتاريخ والمقاومة
أما في بلدية أبالوس بمقاطعة لاريوخا الإسبانية، فقد احتشد المتضامنون مع الجالية الصحراوية للاحتفال بالذكرى الثانية والخمسين لتأسيس جبهة البوليساريو وانطلاق الكفاح المسلح، في تظاهرة سياسية وثقافية عكست تلاحم الشعوب الحرة مع قضايا التحرر. وتم نصب خيمة في ساحة البلدية، في دلالة رمزية على هوية الشعب الصحراوي، كما نُظّم معرض صور يوثق لنضال طويل محفور في الذاكرة الجماعية، وتخللته عروض فنية وأغانٍ وطنية أداها الفنان المرابط المحفوظ، مستحضراً تضحيات الشهداء وبطولات المقاومين. كما شاركت النساء الصحراويات في عرض طقوس النقش بالحناء، في توثيق حي لجماليات التراث الصحراوي الأصيل.
رئيس بلدية أبالوس، بيثنتي أوركويا، لم يكتفِ بالحضور الرمزي، بل عبر عن التزام مؤسسته بدعم القضية الصحراوية من خلال اعتماد توصية تؤيد حق الشعب الصحراوي في الحرية والاستقلال، كما أعلن عن احتضان أطفال صحراويين في إطار برنامج "عطل في سلام"، ودراسة إمكانية توقيع توأمة مع إحدى دوائر الجمهورية الصحراوية، في خطوة ذات دلالة سياسية وإنسانية قوية.
صرخة مشتركة من الجنوب العالمي.. لا شرعية للاحتلال
تُبرز هذه الأحداث الثلاثة بوضوح أن قضية الصحراء الغربية لم تعد محصورة في أروقة السياسة الرسمية أو سجالات الأمم المتحدة، بل باتت قضية إنسانية وثقافية وشبابية عالمية. ومن خلال حضورها في كوسوفو، وعمقها الثقافي في إيطاليا، وامتدادها الجماهيري في إسبانيا، يتأكد أن الشعب الصحراوي لا يخوض معركته منفرداً.
في كل تظاهرة، يظهر جيل جديد من المتضامنين الذين لم يعايشوا بدايات الاحتلال، لكنهم تبنوا القضية كجزء من معركة أوسع من أجل العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها. هذه الصحوة لا تعني فقط أن الكفاح مستمر، بل أن شرعية نضال الشعب الصحراوي تزداد رسوخاً، فيما تزداد عزلة الاحتلال المغربي سياسياً وأخلاقياً.
إن رسالة هذه الفعاليات مجتمعة تؤكد أن الصحراء ليست مجرد رقعة جغرافية متنازع عليها، بل رمزاً لصراع إنساني أعمق، يدور بين الاستعمار والتحرر، بين التسلط والكرامة، بين الصمت والصوت. وهي رسالة لا يمكن لأي قوة أن تسكتها، ما دام هناك شعب يؤمن بحقه، وأحرار حول العالم يتضامنون معه.