تعالج الكاتبة "تمارا شلهوب" في رواية "امرأة في مهبّ الأزرق" جدليّة الواقع والافتراضيّ، وانطلاقًا من العنوان فإنّنا نجد كلمة "امرأة" جاءت نكرة لتعبّر عن امرأة تائهة، انسلخت من هويّتها، ومن واقعها، تعيش حالة ضياع في مهبّ هذا الأزرق، وكلمة "مهبّ" تشير إلى صراع تتعرّض له تلك المرأة مع قوّة خارجة عن إرادتها، امتلكَتها، ودفعتها لخوض تجربة الأزرق، ويشير "الأزرق" هنا إلى ذلك العالم الافتراضيّ البارد، وربطًا بين العنوان وصورة الغلاف، فإنّنا نجد فراشة ترمز إلى المرأة، تقف فوق لهيب شمعة وتحتلّ العنصر الأوّل من الصّورة، يجذبها الضّوء بحثًا عن حقيقته على الرّغم من الخطر الكبير في احتراقها واحتراق أحلامها، يحيط بها بحر هائج أزرق يوحي بالغموض، شمسه غائرة في أفقه تعلن نهاية النّهار، وبدايةَ جوّ بارد يوحي بالحزن، والعزلة، أمّا انتشار نور الشّمس في هذه النقطة الفاصلة ربّما يشير إلى الحرّيّة القابعة خلف هذا القيد الأزرق، ومع هذا الطّوفان الأزرق الذي يسيطر على صورة الغلاف لا يوجد أيّ إشارة للحياة سوى تلك السّفينة عند الأفق، قد تكون خلاصًا لها، فالأفق هو حدّ فاصل بين الحاضر والمجهول، والحاضر هو وجودها في عالم أزرق، غامضِ المعالم يفصل بينها وبين السّفينة، أي بينها وبين ذاتها، وخلاصها.
أتقنت "تمارا" وصف التّفاصيل بدقّة فجعلتنا أمام مشاهد سينمائيّة وحملتنا لنعيش حروف روايتها، ثمر اسم بطلة الرّواية، المرأة المثقّفة ذات القيم والمبادئ، لم تسلم من العالم الافتراضيّ فكان اختيار الاسم موفّقًا كونها جاءت طعمًا شهيًّا لجائع يتسوّل في العالم الافتراضيّ، اسمه "نور"، وكان اسم "نور" اختيارًا موفّقًا أيضًا يعكس ضوء العالم الافتراضيّ، ذلك الضّوء السّاحر الذي يخطف البصر، فالنّور هو انعكاس للضّوء، طافت معه الحواس، وانطلاقًا من حاسّة النّظر خاض اللّمس تجربته عبر الشّاشة ليدخل إلى عالم الخصوصيّات ويتفقّد ويتمعّن في الصّور، فكانت عنصرًا مساعدًا لـ "نور"، ليدخل إلى عالم "ثمر"، تلك الصّور التي نشرتها "ثمر" على صفحتها على أنّها أمر عادي، لم تكن عاديّة لجائع يتسوّل بين ممرّات العالم الافتراضيّ، وكانت كافية لخرق خصوصيّتها، وإشغال العقل والخيال بمادّيّة هذه الصّور وما فيها من مفاتن بارزة، وكان الشّعر أيضًا عنصرًا مساعدًا لالتقاط "ثمر" عبر ملء الفراغ الذي تعيشه، وتلبية لشغفها، ما أدّى إلى إشعال حواسها المكبوتة، واستدراجها لخوض تجربة الضّوء في حياة مثقوبة. وكانت حاسّة النّظر أقواها لعبور هذا العالم الافتراضيّ والانفصال عن الواقع "لطالما جالس صورها، وتخيّل نفسه معها" (ص78).
يعيش "نور" في مصر، و"ثمر" في لبنان، إلّا أنّهما يعيشان في مكان واحد، مكان افتراضيّ يحمل أحلامهما المستحيلة ومشاعرهما الافتراضيّة التي تطوف سرًّا فوق الشّاشة، ما أدّى بهما إلى انعزالهما عن الواقع، وعن العائلة على الرّغم من المسافة صفر التي تجمعهما مع عائلتهما.
شكّل ضمير "ثمر" الزُّوجيّ عاملًا معاكسا لها فكان يلاحقها في كلّ خطوة، خصوصًا بعد اكتشاف الزّوج "وائل" لعلاقتها مع "نور" ومسامحته لها، لكنّها على الرّغم من ذلك سقطت في فخّ العالم الافتراضيّ الذي نهش قلبها بأنيابه، إذ عاشت في أرجائه مراهقة متأخّرة، وأعلنت استسلامها عبر حاسة السّمع "أصابتها تلك الأغنية في المقتل/ استلّت هاتفها، أزالت الحظر، وكلّمته" (ص155) حيث حرّكت هذه الأغنية مشاعرها وجعلتها ضعيفة، هشّة أمام جبروت هذا الضّوء السّاحر، فنسيت رباط الزّواج المقدّس، ونسيت القيم والمبادئ، ونسيت الأولاد.
في هذا العالم انتشر الاستمتاع المادّيّ، واستُخدمت الرّموز التّعبيريّة لإظهار مشاعر خفيّة خلف شاشة باردة (وجه باك للتعبير عن الحزن، قلب أحمر مكسور للتّعبير عن الألم)، وغيرهما من الصّور التي جاءت بديلًا عن لمس المشاعر الحقيقيّة بشكل مباشر.
أظهر لنا هذا العالم تناقض "ثمر" تلك المرأة التي تحبّ زوجها وأولادها، وتعشق "نور"، وهي للمرة الأولى التّي نجد فيها امرأة بقلبين، فعادة ما نجد رجلًا هكذا، ولكن امرأة؟ وهذا دلالة على قدرة هذا العالم الافتراضيّ على السّيطرة وتغيير القناعات وتعديلها تماشيًا مع الأهواء، ودلالة أيضًا على ضياع "ثمر" بين عالمين، العالم الحقيقي الذي يمثّل الاستقرار والعائلة، والعالم الافتراضيّ الذي يحقّق رغبتها كأنثى، مقابل ذلك فهي تلك المرأة المحافظة التي لا ترضى أن تكون كالرّخيصات، ولكنّها في الوقت نفسه تخطّط للّقاء بـ "نور" في العالم الواقعيّ لمدّة ثلاثة أيّام "أنا لن أترك عائلتي/ اكتفِ بلقاء مقتضب ليومين أو ثلاثة على الأكثر" (ص87)، وكأنّ بلقائها به لهذه المدّة القصيرة في الواقع، لن يؤثّر على عائلتها، متجاهلة أنّها في الأصل بخيانتها افتراضيًّا غابت عن بيتها وزوجها على الرّغم من وجودها، فكيف بها إذا التقت به؟ "ربطت نفسها بوعد شرف أصيل، لا يمكن نكثه" (ص78)، ونسيت ذلك الوعد المقدّس مع الله في الزّواج، ما جعلها خائنة للعهد مع الله قبل أن تكون خائنة للزّوج!
وسيطر الزّمن النّفسيّ في انتظار اللّقاء على أرض الواقع، فكان طويلًا يكسره الزّمن الافتراضيّ الذي يرافقهما في كلّ زمان ومكان، وكانت "ثمر" تحيك من خلاله القصص الخياليّة التي تجمع بينها وبين "نور"، من شدّة الشّوق إلى اللّقاء، وتلقيها بأحداثها المشوّقة على مسامع "نور"، وكذلك فإنّ الزّوج عاش أطول مدّة زمنيّة في لحظة اكتشافه لخيانة زوجه الافتراضية "كانت السّاعات الأطول في حياته!" (ص133).
كسرت الكاتبة أفق التّوقّع ليس لمرّة واحدة، إنّما لعدّة مرّات، في المرّة الأولى عندما اكتشف الزّوج خيانة "ثمر" حيث جاء ردّه باردًا، واعيًا، مسامحًا "اتركيني الآن يا ثمر. دعيني استوعب ما تقولينه أنت. بدم بارد/ خرج من الغرفة إلى الجلسة الصّيقيّة خارج البيت" (ص123)، في المرّة الثّانية عندما نقلتنا عبر تقنيّة الحلم على أنّ "ثمر" قد التقت بـ "نور"، لنكتشف لاحقًا أنّها كانت نائمة، وأنّها ما زالت مصرّة على السّفر إليه غير مهتمّة بعواقب اللّقاء، لا بل لم تقدّر غفران زوجها لخطيئتها ومحاولته لإرضائها وعيًا منه بالتّقصير نحوها، على الرّغم من أنّ هذا التّقصير كان مترجمًا بأفعال واقعيّة، وكذلك فإنّني توقّعت أن يظهر "نور" على أنّه شخص مخادع، لكنّ الكاتبة تركت الخاتمة لنا مفتوحة لنختمها نحن بوعينا لهذا الإعصار الافتراضيّ وعواقبه الأليمة والمدمّرة، واكتفت بإظهار ظلم "ثمر" لنفسها ولزوجها ولأولادها وخسارتها لعائلة كان ملؤها الهدوء والسّكينة والاحترام لولا خوض تجربة الضّوء، فعاشت "ثمر" في أحضان الشّوق وما يقابله من عذاب ضمير، وفي تشتّت كبير بين عالمَين إلى أن خسرت العالميْن.
وقد توقّعتُ أنّ "نور" شخصيّة مخادعة لظنّ منّي - وهذه وجهة نظري - أنّ من يحبّ لا يؤذي، بل يحافظ على من يحبّ ويحتويه، لكنّ "نور" تخطّى الخطوط الحمراء وانغمس في استمتاع مادّي لإشباع نفسه، وشجّعها على فقدان عائلتها "تعالي إليّ، فلنجعل الأزرق أبيض أو ورديًّا/ أتوق إلى حقيقتك، إلى جلدك، إلى عطرك، إلى شعرك، إلى كلّ تفاصيلك" (ص69)، فكلّ ما ورد عن "نور" ارتبط بالوصف المادّيّ، مقابل زوج محترم مقدّر ومحبّ لزوجه، وأكثر من ذلك أنّه قد وهبها الثّقة "أحبّني بقدسيّة، بوفاء، بمثاليّة. وثق بي ثقة تامّة/ أطلق جناحيّ/ احترم شخصيّتي النّافرة، ونبضي المستفزّ، وصوتي العالي، بل وكان يحبّ ميزاتي هذه ويقدّرها/ كان رجل الأعمال لا الأقوال" (ص83)، وهنا إشارة إلى أنّه على الرّغم من كلّ هذه الميزات التي تجعل من الرّجل رجلًا بكل معنى الكلمة، إلّا أنّها انصرفت لتتوه في سحر عالم مجهول يُغرقها كلامًا، وينسف وجودها حقيقة، ذلك الحبّ المحمّل بإشعاعات المادّة الذي ينتهي فور الامتلاك.
رسائل متعدّدة أشارت إليها "تمارا" في سردها منها أن تحافظ المرأة على نفسها وأن لا تنجرّ خلف أوهام العالم المادّيّ، حيث أنّه مكان يسهل استخدامه للاستفزاز والفضيحة، أيضًا حثّت على الاهتمام بالخصوصيّات وعدم نشرها حتّى بين الأقارب "لم يعرف بالقصّة إلّا المعنيّون. ذلك أسكت الثّرثرات وضبط النّميمة، وساعد في تركيز جهد كلّ منهما على عمله، من أجل تخطّي الصّعوبة" (ص75)، وكذلك فإنّها قدّمت رسالة تدعو فيها إلى الاهتمام بالمرأة ككائن أنثويّ مجبول بالمشاعر وحبّ الاستمتاع بأجمل الكلمات "هو يقول ما أحبّ أن أسمعه، وأنا امرأة من كلام يا وائل" (ص126)، حيث انجرفت "ثمر" متناسية المعنى الحقيقيّ للحب، ألا وهو التّضحية والوفاء؛ ف، "وائل" ضحّى بكلّ شيء لإسعادها، ضحّى بكرامته، إن تكلّمنا عن المجتمع الشّرقيّ، وسامحها، وحاول أن يرضيها، ويقرأها في كلماتها، على الرّغم من جهله لذلك، ولكنّها لم تقدّر ذلك، واختارت حبًّا من كلمات في عالم مزيّف، وأيّ تضحية قدّمها لها "نور"؟ ليس سوى أنّه كان يقدّم لها كلامًا تهواه ليستدرجها إليه، ويثير شفقتها بكلامه عن زوجه التي يعيش معها وهو مغلوب على أمره. وقد وجّهت الكاتبة رسالة توعية للمرأة وتنبيهها من مخاطر هذه العلاقات وهشاشتها بأسلوب سرديّ عميق، ولم تنس الإشارة إلى مهنة التّعليم وما يعانيه المعلّم في مجتمعنا "تخيّل أنّ تعويض عشرين عامًا من الخدمة [...] اليوم لا يساوي أكثر من ألف واحد يتيم لا غير!" (ص71).
وكذلك فقد أضاءت الكاتبة على تلك العقول المتحجّرة التي ترفض الآخر وتعيش تحت غطاء طائفيّ يلغي تميّز الاختلاف في الحياة وجماله، لكن أودّ الإشارة إلى ما ورد في الرّواية عن الدين الإسلامي "أيّ دين هو هذا الذي يسمح بتعدّد الزّوجات، ويكسر بخاطر المرأة، ويسمح بأن تُضرب وتُهجر وتُطلّق بكلمة واحدة؟" (ص41) فإنّ الإسلام بريء من هذا الكلام لأنّ الإسلام قد كرّم المرأة، وحثّ على احترامها وبأدلّة من القرآن والسّنة النّبويّة الشّريفة، وإنّ الكثير من الأقوال منتشرة ثقافيًّا من خلال توارثها جيلًا بعد جيل، وإنّنا نشكر الكاتبة على طرحها لهذا القول المتوارث والمنتشر لتوضيحه، لأنّ هذه الفكرة هي فعلًا منتشرة وترتبط ظاهريًّا باسم الدّين، والدّين بريء منها، ولكنّ المجتمع يأخذ القشور فقط، لما يفيد المصلحة الشّخصيّة! ولن أطيل هنا في الكلام لأنّ دراستي هذه ليست دينيّة.
وأخيرًا فإنّ ما جاءت به هذه الرّواية خلق وعيًا كثيفًا لما قد يجري داخل العالم الافتراضيّ، ذلك الضّوء السّاحر الفارغ من الداخل ولا يحوي سوى مشاعر افتراضيّة تطوف فوق شاشات باردة، تهمس من بُعد بعبارات جاذبة، وبصور مادّيّة يدخل من خلالها كلّ متسوّل لخرق خصوصيّة الآخر واستمتاعه بما ليس له، من خلال خيال يجمع غير المباح لا دينيًّا ولا أخلاقيًّا، وكذلك فإنّ هذه الرّواية تسلّط الضّوء على أهمّيّة العائلة، وأهمّيّة هذا الرّباط المقدّس الذي يجب ألّا يدنّس بعلاقات غير شرعيّة، لا افتراضيًّا ولا واقعيًّا، فالخيانة تعدّ خيانة في كلا المكانين، والخيانة الافتراضيّة شأنها شأن الخيانة الحقيقيّة التي باتت نتيجة حتميّة للقاء افتراضيّ، وغياب عن الواقع، حيث بات الواقع في غياب تامّ في ظلّ سيطرة الأسلاك الافتراضيّة.