2025.07.17
ثقافة
التكنولوجيا تغتال أعراس الجمال.. من سرق الربيع من قلوبنا؟

التكنولوجيا تغتال أعراس الجمال.. من سرق الربيع من قلوبنا؟


مثلما تستقبل العصافير فصلَ الربيع فتستعيد "أصواتها" من أسر الصّمت الشتوي، وتُجدّد حيويّتها، وتحتفل بالجمال في الطبيعة المُزهرة الخضراء، يستقبل الشعراء فصلَ الربيع بالأشعار الحافلة بصور الجمال والتغنّي بالحياة.. كأنما الشعراء هم عصافير الحياة، يُنبّهون الناس بقصائدهم إلى فصل الربيع، ويدعونهم إلى اغتنام ما فيه من صور جمالية ساحرة! ولعل الشعراء وحدهم لا يزالون يعبؤون بالربيع ويستشعرون قدومه فيقيمون له الأعراس على بياض أوراقهم، أما عموم الناس فلم تعد تعنيهم الفصول وتبدّلاتها، فهم معنيون بحرارة الجو أو برودته ليغيّروا ملابسهم فحسب! ولعل الفلاحين كانوا الفئة المجتمعية الأكثر ارتباطا بتبدّلات الفصول، فقد كان لكل بلد تقويمه الفلاحي الذي يقسّم السنة إلى مراحل زمنية حيث لكل مرحلة أيامها، ويتنبّأ بالمواسم وتأثير تغيّرات الطقس على الفلاحة.. ففي الجزائر، كان مدير تحرير جريدة "كوكب إفريقية" الشيخ "محمود كَحُّول" يُصدر "التقويم الجزائري"، ولعل هذا التقويم السنوي صدر ثلاث أو أربع مرّات فقط، ابتداء بعام 1910. وقد نشرت جريدة "الأيام نيوز"، في شهر أوت 2023، عرضًا لكتاب "التقويم الجزائري" لعام 1331 هجري، جاء فيه: "اشتملت الصفحات الأولى من كتاب التقويم الجزائري لسنة 1331 هجرية، على شهور السّنة والتاريخ اليومي فيها، ومواقيت الفجر الفلكي، والفجر العربي، وشروق الشمس، وغروب الشمس، وطلوع القمر، بالساعة والدقيقة، وذلك وِفقًا للتأريخ الهجري والمسيحي (الميلادي) والقبطي. بالإضافة إلى تحديد دخول كل شهر هجريّ، وما فيه من مناسبات دينية إسلامية أو مسيحية، وما يحدث فيه من حركة في الأجرام السماوية من اقتران للكواكب، إضافة إلى تحديد بدايات المواسم والفصول باليوم والساعة والدقيقة. كما يذكر تقويم الأيام التي ما زالت مُتداولة حتى الآن في بعض مناطق الجزائر...". تضمَّن كتاب "التقويم الفلاحي" الجزائري كثيرا من المعلومات التي نعتبرها من الطرائف في أيامنا هذه، فقد قسّم الحديث عن كل شهر على محورين هما: حوادثه، وثماره. ومثال ذلك "شهر جانفي، فقد جاء في الحديث عنه حوادثه: إن كان فيه رعدٌ فإنه يُخبر بكل خبر، وإن حصل الرّعد والقمر في نقصان، دلّ على جوع وحرب. وإن كسف القمر فيه، كَثُر الخِصبُ. وإن وَقَع في اليوم الخامس عشر منه مطرٌ، حصل الزّرع بإذن الله تعالى. وفي العشرين، إن أمطرَت اليومَ والليلةَ، كان الخير والخصب عاما. ثماره: وفي هذا الشهر يُكرَّب الشجر تركيبًا يُسمّى بالتّرقيع، ويُزرعُ فيه القطن والحَبَق. وينبغي أن يُحذَف فيه من كل كَرَم قد أتَت له سنتان قُضبانا (لم تُورق أشجار الكروم مثل العنب مدّة سنتين)، يُستغنى عنها.. ومن الناس من يحذفها بيده، إذ كان الأوّلون لا يرون مسّ الكرم بِحديدة حتى تأتي عليه ثلاث سنوات (لا يُمسّ شجرُ الكرم بآلة حديديّة حتى يتجاوز عمره الثلاث سنوات). من الأمثلة الأخرى "شهر ماي، حوادثه: في الواحد والثلاثين منه، يُنظر إلى الرّيح، فإن كانت شرقية صلُح القمح. وإن كانت غربية، صلُح الشعير. (لم يذكر ثماره). وشهر جوان، حوادثه: إن وقع الرعدُ فيه، والقمر في نقصان، دلّ على جوع وهرج. ثماره: الزرع الذي يُحصَد في اليوم الثالث والعشرين منه، لا يُسوّس ولا تلحقه آفة بإذن الله تعالى". من المعلومات الأخرى التي وردت في الكتاب: "إن دخلت (السنة) بيوم الأحد فهي للشمس، تَقِلُّ فيها الرياح، وتفسد الفواكه، ويكون زرعُها كبيرًا (من حيث حجم السّنبلة). وفيها بردٌ وثلجٌ كثير، ورعد، ويكثر مطرها في الحصاد، فمن لم يَعجل بحصاده فسَد زرعه.. وإن دخلت (السنة) بالإثنين فهي للقمر، وأوّلها حسَنٌ جدا، كثير الأمطار، وفي وسطها نفع المصايب (من الصّيّب) في الزّرع والإثمار. وإن دخلت بالثلاثاء فهي للأحمر، وهي كثيرة الأمطار والثلوج، ويكون الزرع كثيرًا والفاكهة قليلة". وتُعرف حالة السّنة الفلاحية من حركة الحيوانات"، مثلا: "إذا كثُر نعيق (نقيق) الضّفادع دلّ على الأمراض والوباء، وإذا نقصُت بعد وقوع الوباء، ارتفع الوباء (رُفِع وانتهى). وإذا وقع الموت في الوحوش (حيوانات البريّة)، كان الجوع والحرب. وإذا رأيت العصافير تُصَوِّت صوتًا ضعيفًا، ورأيت الطّير تجري بين الشجر وتُكثِر الانغماس في الماء، ورأيت الدّجاج تُكثر الانحكاك (الاحتكاك) في التراب وتتمرّغ فيه، دلّ كل ذلك على شدّة المطر والبرد". ويتحدّث الكتاب عن "أيام الرّجز" - لعله يقصد العذاب - فيقول: "ذكر أهل التجارب أن هذه الأيام التي أنزلها الله على بني إسرائيل، لا يُزرع فيها بزرٌ (بذرٌ)، ولا يُغرس فيها شجر، ولا يُسافَر فيها، ولا تُطلَب فيها حاجة بوجهٍ من الوجوه. وفي كل شهر يُوجد منها يومان..". لقد انقضى زمن التقويم الفلاحي وما تبقّى منه يُعتبر لونًا من التراث الفلاحي يتمّ تداوله بين كبار السنّ والمهتمين بـ "المعرفة التراثية"، فقد أحدثت التكنولوجيا انقلابات كبرى في حياة الناس فسلبتهم - دون وعي منهم - حقّهم "الطبيعي" في التواصل مع الطبيعة، وعطّلت "الحاسّة الثامنة" لديهم التي يتذوّقون بها الجمال المتدفّق في الجبال والرّوابي والحقول، ومنحتهم بدلًا عن الأزهار الحيّة الملوّنة التي تضجّ بالعطر والشّذى، أزهارا مُصنّعة من البلاستيك لا تذبل ولا روح فيها.. كأنما أرادت أن تقول للإنسان: كن مُصنّعًا حتى لا تذبل مثل الأزهار! تماما مثلما منحتهم مناديل من ورقٍ لا تُرمى في طريق العاشقين، ولكنها تُرمى في سلّة النفايات بعد العطسة الأولى، فلا حاجة لمناديل العشق في عصر العشق الرّقمي! ما أحدثته التكنولوجيا من انقلابات في حياة المجتمعات تجاوز حدّ سجن الإنسان في ذاته وبين الزوايا الهندسية لهياكل الإسمنت المُسلّح.. إلى إحداث شبه قطيعة بين الإنسان والطبيعة الحيّة المنطلقة، وهي في حقيقتها قطيعةٌ بين الإنسان والأرض والشمس والسماء والهواء، قطيعة بين الإنسان والجمال الطبيعي و"السّحر الحلال" في زمن التّجميل الاصطناعي والجراحي.. وقد تتطوّر فتغدو قطيعة مع الحياة ذاتها، لا سيما وأن الذكاء الاصطناعي يتوجّه إلى أن يجعل من الإنسان تابعًا له وربّما يحيا الحياة بدلا عنه في شؤون كثيرة! ولا عجب أن يكون الشعراء هم أكثر الناس ارتباطا بفصل الربيع، وهو ارتباطٌ تاريخي عريق، فديوان الشعر العربي، عبر مختلف العصور، حافلٌ بفيوضٍ من الأشعار حول فصل الربيع، بعضها يتغنّى بالجمال المتدفّق في الطبيعة، وبعضها يُسقِط معاني الربيع على الحالة النفسية والوجدانية للشاعر، وبعضها يُرثي ربيع الشباب ويقف عند عتبات عمره مُستذكرا فتوحاته في ممالك الحياة، وبعضها يُفجّر الكوامن العاطفية والغزليّة مستثمرا معاني الربيع، وبعضها يقرأ أكمام الورد الأحمر والأصفر والبنفسجي.. كأنّما يُبصّر في فنجان ويستشرف ما بعد ذبول تلك الأكمام. ونعتقد بأن معظم الأدباء انطلقوا في كتاباتهم الأولى من موضوع فصل الربيع، ومن التعبير الإنشائي في مرحلة الابتدائية أو الإعدادية.. ولعل هناك عبارات مُشتركة بين الأجيال العربية، تلك التي تقول: حلّ فصل الربيع، واكتست الطبيعة حلّة مزركشة، والسماء صافية، والعصافير تزقزق.. في مدار هذه الأفكار، توجّهت جريدة "الأيام نيوز" إلى نخبة من الكُتّاب الأفاضل بهذه التساؤلات: ما هو موقع فصل الربيع في حياتنا المعاصرة، وهل لا زلنا مرتبطين به وبالطبيعة في أجوائه؟ وهل تحوّلت الحياة خلال العقود الأخيرة إلى ما هو اصطناعي وابتعدنا عن الطبيعة وما هو طبيعي؟ وما علاقتنا بالجمال الطبيعي؟ وتساؤلات أخرى كثيرة سيجد القارئ إجابات عنها في سياق هذا الملف. منيرة جهاد الحجّار (كاتبة وباحثة من لبنان)

ربيع العمر

وُلد الرّبيع في أحضان الأمّهات، فكان حياة لكلّ الكائنات، فرح، وجمال، وبهاء ألوان، وموسيقى كتلك التي يغفو عليها الطّفل وينتقل إلى سحر الأحلام بأمان! لكن كيف حال الأمّهات اليوم؟ وهل خان الرّبيع بهاء الأمّهات؟ يحلّ الرّبيع في كلّ عام ضيفًا عزيزًا، لا يُثقل على الأرض، إنّما يأتي ليوزّع أسباب الحياة، يأتي ليقول إنّ بعد الشّدّة فرجًا، وإنّ بعد الموت حياة! ويأتي ليقول: إنّي ما شبتُ يومًا مع أنّ عمري من قديم الزّمان، فلا عمر يُحدَّد برقم، ولا رقم يحدّ من عمل الإنسان! إنّما عمل يجعل للإنسان امتدادًا أو انتهاءً، ويجعله بعمر الشّباب أو الكهولة، ويترك له أثرًا طيّبًا بعد الممات، أو يكون كأنّه لم يكن! فماذا عن ربيع العمر؟  يترعرع ببريق ألوانه، وعطاءاته، وحياته التي يهبها للجميع، وهكذا هي الأمّ دائمًا بِعُمْرِ الرّبيع حتّى ولو غمرها إعصار من الآلام، هي رفيقة الرّبيع لا تشيب عطاءاتها، وتبعث عبير الحبّ في كلّ مكان، لكن هل خان ربيع اليوم بهاءها، وخان اللّقاء؟ الرّبيع كالأمّ لا يخون، دائمًا يأتي محمّلًا بأسرار الحياة، لكن في هذه المرّة بدا عليه الشّحوب على الرّغم من تأديته لرسالته التي خُلق من أجلها، حلّ بوشاحه المزركش، فصُعق من هول ما وجد! دموع أمّهات فقدْن فلذّات أكبادهنّ، ويتامى أغلقوا عيون آبائهم برمال ملوّنة كانت تحمل بين أيديهم ذكريات الطّفولة، وظلم يحلّق في كلّ الأرجاء! خجل من ألوانه البرّاقة، ورفرف بجناحيه ليلقي رسالة أمل تمسح دموعهم، وأطلق فراشات تنقل الرّحيق إلى قلوبهم، وعصافير تعزف لهم سمفونيّة الحبّ، وسماء تتلألأ بمصابيح الصّبر، ولكنّ إعصار الألم المنتشر في كلّ مكان أقوى بكثير، ودخان الظّلم يغطّي الحقّ ويعلن إبادة للإنسان! فيا هل تُرى مَن سينتصر؟ شابت الأمّهات، وبقي الرّبيع شابًا، شابت الأمّهات وهنّ ما زلن في عمر الورد المحمّل بأبهى حبّات النّدى، فأيقنتُ اليوم، وتأكّدتُ أنّ العمر لا يُقاس برقم، ولا بسنين، ولا بأيّام، ولا ساعات، إنّما بروح معطاء ينحني أمامها ربيع العمر!  وأعتقد أنّ الرّبيع سيتّحد مع الأمّهات ليعلنوا من جديد أنّ الرّبيع هو فصل الحياة، وفصل الأمّ بكلّ ما تحمله الكلمات من معنى، وفصل الطّفل اليتيم الذي لن يستسلم لشتاء مبكر جاء في غير موعده! فإنّ النّور حتمًا سينتصر وستعود الحياة... ولكن متى؟ رُبّما مع أوّل لقاء بين الأرض والسّماء! وحيد حمّود (كاتب من لبنان)

هل جرّبتم الحياة من دون فيلتر؟

اهجروا أسِرّتكُم، اركضوا بملابسكم الداخليّة أو قمصان نومكم أو حتّى عراةً نحو الشوارع، اهرعوا كهاربٍ من الموت، لا تنظروا وراءكم، فليقابل بعضكم بعضًا هكذا، بعيونٍ مغبّشة، وشعرٍ مبعثر، ومن دون مساحيق التجميل، والابتسامات المصطنعة، انظروا لأنفسكم، جميعكم هكذا، حُفاةً عُراةً، كم أنتم متشابهون! كم أنتم مفلسون! كم أنتم حقيقيّون! إنّ الحقيقة كذبة الفلاسفة، هنا الحياة بلونها الحقيقيّ، فليحدّق كلٌّ منكم في عينَي الآخر، أو حدّقوا في أيّ شيء فيكم إن أردتم، لا مكان للشهوات ها هنا، الخوف يُلغي كلّ الحواس ويُبقي على حاسة البقاء، انظروا إلى بعضكم بعضًا، ماذا ترون؟ سأخبركم، عيونكم جاحظة، متفاجئة، حدقاتها متّسعة، شاخصةٌ أبصاركم، صمٌّ بُكمٌ فكأنّكم مَحض سراب، وكأنّ كلّ ما يجري لعبة كاميرا خفيّة، وستلوّحون باليد بعد قليل: "باي كاميرا". لكن، لا كاميرات عليكم سوى أعينكم، حدّقوا في بعضكم البعض، كم أنتم مفلسون! أين الأغنياء؟ جميعكم فقراء، من أحضر معه ماله فليستر به نفسه إن استطاع، من أحضرت معها مجوهراتها فلتخفي بهم مفاتنها إن استطاعت. أين الذي كان يتغنّى بقصره وماله؟ فليأمر القصر بأن يحميه، وليأمر المال بأن ينجيه، حدّقوا في بعضكم البعض، هذا أنتم من دون فيلتر، كم أنتم مفلسون! أين المجرمون؟ أين المتسلّطون؟ أين المخادعون؟ أين أصحاب الجشع؟ أين الطمّاعون؟ ارفعوا أياديكم، أطلِقوا أصواتكم، دلّوا على أنفسكم بالأصابع، مرّروا صيحاتكم عاليًا كما كنتم تفعلون، تكلّموا كي أراكم، ارفعوا رؤوسكم إن استطعتم بما كنتم تفعلون، ألا بؤس ما كنتم تفعلون، كم أنتم مفلسون! كم أنتم من أسمائكم خائفون! الآن يخاف الإنسان من نفسه، من اسمه، من ظلّه، ألم تخشَوا أن تُردّ عليكم أفعالكم فتنطق بها ألسنتكم وتشير إليها أياديكم؟ إلى أين تهربون؟ هنا لا مفرّ، هنا لا مكيّفات تكسر شدّة الحرّ، هنا لا أمكنة ملائمة لجلودكم وبشرتكم، هنا الموت ملاقيكم فأين يا تُرى ستفرّون؟ الربيع واقفٌ على الباب، ينادي المستضعفين الذين ارتضَوا العيش بكرامة، ينادي أولئك الحقيقيين الصابرين المهمّشين، الذين لم يكن لهم حولٌ ولا قوّة، أما أنتم فليأكلكم القيظ وليفتّت جلودكم الصقيع ولتُخلّدوا في العذاب بما كنتم تفعلون، كم أنتم مفلسون! لا يعرف وجه الحياة الحقيقيّ سوى الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوّة، أولئك الذين لا يحتاجون إلى مكياجٍ كي يتقبّلهم الآخرون، فالناس تعوّدوا على تقبّل العِلَل من كلّ شيطانٍ حاكم، وكلّ ذي مالٍ كثير، والفقراء لن يتقبّلهم أحد، مهما فعلوا، إنّهم يحيَون فقط من أجل أن يحيَوا، لا شيء لديهم يخافون عليه، لا شيء يبكون عليه، لا يهمّهم إن طال الشتاء أو قصُر فالبرد رفيقهم الدائم، الجيوب الفارغة أشدّ بردًا من صقيع السماء، لا يهمّهم وجه الربيع فالحبّ عندهم لا تُعبّر عنه الورود، بل العناقات والأمان، أين أنتم من هؤلاء؟ زوروا أفعالكم الآن، ألا بئس ما كنتم تفعلون! كم أنتم مفلسون! الحياة فصولٌ أربعة، والموت ينقضّ على الأنام كزوبعة، والناس نيام، متى يُخرج الربيع سنابل الضمير من تراب الأرض؟ هؤلاء المتعطّشون إلى الحياة من دون فيلتر، ينتظرون الربيع، لن يبتسموا لأجلكم، سيفرحون يوم تبكون، وستطلبون شفاعتهم يوم لا ينفع الندم، وسيديرون لكم ظهورهم كما أدرتم لهم الظهور، الآن بصوتٍ واحدٍ سيصيحون: أيها المارّون بين الكلمات العابرة كدّسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدّس أو إلى توقيت موسيقى مسدّس فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا ولنا ما ليس فيكم: وطن ينزف شعبًا، وطن يصلح للنسيان أو للذاكرة أيها المارون بين الكلمات العابرة آن أن تنصرفوا وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا آن أن تنصرفوا ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا فلنا في أرضنا ما نعمل ولنا الماضي هنا ولنا صوت الحياة الأول ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل ولنا الدنيا هنا والآخرة اخرجوا من أرضنا من برنا من بحرنا من قمحنا من ملحنا من جرحنا من كل شيء، واخرجوا من ذكريات الذاكرة أيها المارون بين الكلمات العابرة! ربيعٌ من الله آتٍ إليهم، ويا لبؤس ما فعلتم، ويا لبؤس ما تفعلون! كم أنتم مُبلَسون! كم أنتم مُفلِسون! د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب ـ جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر)

الطبيعة أكبر مُعلّم للجمال.. فصل الربيع في الشعر والأدب والحياة

لقد انطلق معظم الأدباء في كتاباتهم الأولى عن فصل الربيع، من التعبير الإنشائي في مرحلة الابتدائية أو الإعدادية، حيث كان معلم اللغة العربية يضع لنا بعض العناصر أو يجمعها من النابهين منا ثم يطالبنا بالكتابة فيها، والحق أننا بوصفنا من أبناء الريف كنا نعيش فصل الربيع في حقولنا وفي البيئة حولنا حيث تفتح الزهور وروائحها العطرة في حدائق البرتقال التي تغمر الجو من حولنا وتعطر النسيم فتسر العين وتريح النفس وتثري الخيال لمن عندهم الاستعداد للكتابة الشعرية أو النثرية، وأذكر أنني كنت متفوقا في اللغة العربية وكنت أجيد كتابة موضوعات الإنشاء وبخاصة ما يتعلق بالريف كفصل الربيع وشم النسيم وموسم الحصاد وغيرها. وكانت هناك عبارات مُشتركة بين الأجيال العربية تلك التي تقول: حلّ فصل الربيع واكتست الطبيعة حلّة مزركشة والسماء صافية والعصافير تزقزق.. وغيرها من العبارات التي تبعث السرور في نفس القارئ لأنها نابعة من سرور في نفس الكاتب. وقد أبدع الأدباء والشعراء العرب عبر العصور أعمالا أدبية رائعة عن فصل الربيع.. لما له من موقع جميل في حياتنا، وما زلنا وسنظل مرتبطين به وبالطبيعة في أجوائه، مهما تحوّلت الحياة خلال العقود الأخيرة إلى ما هو اصطناعي مما يحاول أن يبعدنا عن الطبيعة وما هو طبيعي، إذ يبقى الجمال الطبيعي هو الأصل والجمال الصناعي مجرد محاكاة خالية من الروح، فأين الطبيعة المتبرجة الفاتنة بزينتها التي تسر الناظرين وروائحها الطبيعية التي تعطر أجواءهم من طبيعة صناعية خالية من الجمال وغن ظهرت بمظهره. فصل الربيع في بلادنا يثير في النفوس أجمل الذكريات حيث التنزه بين رياض الطبيعة بلا تكلف ولا تكلفة إذ نحن محاطون بالجمال الطبيعي الذي قد يفقد الإلف بهجته إلا عند ذوي النفوس المرهفة التي تتذوق الجمال وتحسن التعبير عنه، وليس أجدر من الشعراء والكتاب الذين منّ الله عليهم بموهبة الحس والشعور بالجمال والقدر على التعبير عنه، ليس أجدر منهم بهذا التعبير الذي يضيف لبهجة الربيع بهجة ويبعث غيرهم على التمتع بالربيع وما فيه من جمال وبهجة. والطبيعة لوحةٌ فائقة الوصف والجمال، صاغتها حكمة الخالق - سبحانه وتعالى -، فهي هبة الله للإنسان بكل ما فيها من ماءٍ وهواء وطيورٍ وحيوانات وأنهارٍ وبحارٍ وجبالٍ وسهول ووديان، وهي سرٌّ من أسرار الله التي أودعها في الأرض وسخّرها ليعيش فيها الإنسان ويتمتع فيها ويستغلّها كيفما شاء، وهي مصدرٌ للإثارة والسحر المتجدد الذي تحتار به العقول ويأخذ بالنفس بعيدًا جدًا ليحلق بها في فضاءات الدهشة، وهي متحفٌ مجانيٌ مفتوح لا يحدّه حد ولا يُغلق بمفتاح، وفيها ومنها وقود الحياة الذي لا ينتهي إلى أن يشاء الله. في وصف الطبيعة تحتار العين من أين تبدأ النظر، ويحتار القلب فيما يُحب أكثر، ويعجز اللسان عن قول كل ما يمكن قوله في وصفها، ففي كل جزءٍ من أجزاء الطبيعة بحرٌ من الغرابة والأسرار لا تُدركه العقول بشكلٍ كامل، وفي كل ركنٍ منها فرصة للتأمل والتعلّم، فالطبيعة أكبر مُعلّم، وفيها تبدو الأشياء على سجيّتها دون تكلف أو تصنّع، وما من شيءٍ يكسر حاجز السكينة فيها سوى الأيادي الخفيّة التي تُشوّهها أحيانًا مثلما يفعل فيها البشر، لكنها رغم ذلك فإنَّ الطبيعة قادرة على أن تُعين نفسها على الصبر والمقاومة والتجدد لأنها معجزة كاملة ومتكاملة، وكلّ ما فيها من أكبره إلى أصغره يُشكلُ حالة استثنائية خاصة فيه. وأذكر أنني كنت أذاكر دروسي سيرا على الأقدام بين الحقل شأن أترابي في مراحل التعليم المختلفة من الابتدائي حتى الجامعة، وحتى حين سكنت في المدينة الجامعية كنت أترك السكن وأتجول بين الحقول في أطراف مدينة "شبين الكوم" كما تعودت، مستمتعا بجمال الطبيعة الذي يساعد على استذكار الدروس واستيعابها خصوصا أننا كنا ندرس الأدب العربي في عصوره المختلفة ومن ذلك وصف الشعراء للطبيعة وكتابتهم عن الربيع. ولعل أول بيت كتبته وأنا في المرحلة الثانوية كان عن هذه التجربة الثرية الجميلة في الربيع حيث قلت: خرجت أتنزه بين الحقول -- أشم النسيم وعطر الزهور وقد ظلت الطبيعة بجمالها ملهمة لي حتى اليوم أستلهم منها تشبيهاتي، وليس أدل على ذلك من هذه المساجلة بيني وبين صديقي الشاعر الأحسائي "عبد الله العويد"، حيث أرسل لي رسالة شعرية يقول فيها: بَسيمٌ يُذَكّرُني بِالزُّهور -- تَفوحُ على مُهجَتي بِالعُطور!! أبا أحمدٍ: قد بَنيتَ جُسوراً -- فصِرنا نُرفرِفُ بينَ الطيور! سَلامٌ عليكُم أحِبّاءَ مِصرٍ -- مَحبَّتُكُم رَسَخَت بِالجُذور!! مَنُوفِيّتي عَزفَت حُبَّها!! -- تُنادِي الْعُوَيِّدَ: أينَ الْحُضور؟ خُذوني نديماً لأهلي بِمِصرٍ -- فرشْفُ القوافي دواءُ الصدور! فرددت عليه قائلا: صديقي الحبيبَ جُزِيتَ السُّرور -- ودُمْتَ حبيبي كعِطرِ الزُّهور وضعتُم أساساً متيناً، فقمنا -- برفعِ البِناءِ يُضاهي القُصور سلامٌ لأهلِ الحسا من بسيمٍ -- وحُبٌّ يضيءُ كهالاتِ نور وأحساءُ ترنو إلينا بِحُبٍّ -- وماءٌ ونخلٌ، فتُغري الحُضور ولِـ (ابْنِ العُويّدِ) في قلبِنا -- مكانٌ، فقد كان خيرَ السّمير واستلهام الطبيعة وجمالها في "الأحساء" واضح في أبيات "ابن عويد" وردّي عليها. وقد اشتهرت رائعة الشاعر "البحتري" في وصف الربيع حتى أثرت فيمن جاء بعده من الشعراء على مر العصور، إذ قال عنه "أبو تمام" إنّه خليفته من بعده، وقال عنه "ابن المعتز": "لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينيّة في وصف إيوان كسرى فليس للعرب سينية مثلها، وقصيدته في وصف البركة، لكان أشعر الناس في زمانه". وقد نظم "البحتري" قصيدته هذه في مدح أمير يقال له "أبو القاسم"، إذ أن غرض المدح هو أكثر الأغراض دورانًا في ديوان "البحتري"، فيقول في مطلع قصيدته: أَكانَ الصِبا إِلّا خَيالاً مُسَلِّما -- أَقامَ كَرَجعِ الطَرفِ ثُمَّ تَصَرَّما أَرى أَقصَرَ الأَيّامِ أَحمَدَ في الصِبا -- وَأَطوَلَها ما كانَ فيهِ مُذَمَّما وهذان البيتان يمكن تصنيفهما على أنهما حكمة للقارىء أو المستمع، إذ جرت عادة الشعراء العرب في ذاك الوقت افتتاح بعض قصائدهم بالحكم، فيقول الشاعر إنّه يرى أنّ أيّام الشباب والصبا هي أقصر الأيّام في حياة الإنسان، فعمر الصبا لم يكن سوى خيالًا أقام طرفة عين ثمّ ولّى، ثمّ يتعجّب الشاعر من قصر أيّام الصبا السعيدة بينما تكون الأيّام الصعبة والقاسية طويلة!، ثمّ يقول بعد ذلك في وصف الربيع: أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً -- مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما وَقَد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُّجى -- أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما يُفَتِّقُها بَردُ النَدى فَكَأَنَّهُ -- يَبُثُّ حَديثاً كانَ أَمسِ مُكَتَّما وَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَبيعُ لِباسُهُ -- عَلَيهِ كَما نَشَّرتَ وَشياً مُنَمنَما أَحَلَّ فَأَبدى لِلعُيونِ بَشاشَةً -- وَكانَ قَذىً لِلعَينِ إِذ كانَ مُحرَما وَرَقَّ نَسيمُ الريحِ حَتّى حَسِبتَهُ -- يَجيءُ بِأَنفاسِ الأَحِبَّةِ نُعَّما فَما يَحبِسُ الراحَ الَّتي أَنتَ خِلُّها -- وَما يَمنَعُ الأَوتارَ أَن تَتَرَنَّما وَما زِلتَ شَمساً لِلنَدامى إِذا انتَشوا -- وَراحوا بُدوراً يَستَحِثّونَ أَنجُما تَكَرَّمتَ مِن قَبلِ الكُؤوسِ عَلَيهِمُ -- فَما اسطَعنَ أَن يُحدِثنَ فيكَ تَكَرُّما ولـ "ابن المعتز" قصيد عن الربيع يبدأها بقول "البحتري" (أتاك الربيع)، يقول فيها: أَتاكَ الرَبيعُ بِصَوبِ البُكَر -- وَرَفَّ عَلى الجِسِ بَردُ السَحَر وَجَفَّت عَلى المَرءِ أَثوابُهُ -- إِذا رَحَ في حاجَةٍ أَو بَكَر وَنُقِّرَت الأَرضُ عَن جَوهَرٍ -- فَمُنتَظِمٍ مِنهُ أَو مُنتَثِر وَقَد عَدَلَ الدَهرُ ميزانَهُ -- فَلا فيهِ حَرٌّ وَلا فيهِ قُر وَشَربٍ سَبَقتُهُمُ وَالصَبا -- حُ في وَكرِهِ واقِعٌ لَم يَطِر كَأَنَّهُمُ نَثَروا بَينَهُم -- حَريقاً فَأَيديهِمُ تَستَعِر ولـ "ابن الرومي" قصيدة في المدح بدأها بوصف الربيع موظفا هذا الوصف في مدحه، يقول فيها: ضحكَ الربيعُ إلى بكا الدِّيمِ -- وغدا يُسَوِّي النبت بالقمَمِ من بين أخضرَ لابسٍ كُمَماً -- خُضْراً وأزهرَ غير ذي كُمَمِ مُتلاحِق الأطرافِ مُتَّسقٍ -- فكأنَّه قد طُمَّ بالجَلمِ مُتبلِّجِ الضَّحواتِ مُشرِقِها -- متأرِّجِ الأسحار والعَتَمِ تَجِدُ الوحوشُ به كفايتَها -- والطيرُ فيه عتيدةُ الطِّعَمِ فظباؤهُ تُضْحي بمُنْتَطَحٍ -- وحمامُه تُضْحِي بمختصمِ أحذى الأميرُ ربيعَنا خُلُقاً -- يهمي إذا ما البرقُ لم يُشَمِ فالقطْرُ ضربةُ لازمٍ قسماً -- والصحوُ فيه تحِلَّةُ القسمِ والروضُ في قِطَعِ الزَّبَرجَدِ والْـ -- ياقوتُ تحت لآلِئٍ تُؤمِ طلٌّ يُرقرقُهُ على ورقٍ -- فكأنّه درٌّ على لِمَمِ حشد الربيعُ مع الربيع لهُ -- فغدا يهُزُّ أثائثَ الجُممِ والدولةُ الزهراءُ والزمن الـ -- مِزهار حسبك شافيَ القَرَمِ إن الربيعَ لكالشَّباب وإنْ -- نَ الصيفَ يكسعه لكالهرمِ أشقائقَ النُّعمانِ بين رُبَى -- نُعمانَ أنتِ محاسنُ النِّعمِ غدتِ الشقائقُ وهْي واصفةٌ -- آلاءَ ذي الجبروتِ والعِظَمِ تُرَفٌ لأبصارٍ حلَلْنَ بها -- لِيرَيْنَ كيف عجائبُ الحِكمِ عبرٌ لأفكارٍ بعثن لها -- ليرين كيف عجائب الحكمِ شُعَلٌ تزيدك في النهار سنىً -- وتُضيءُ في مُحْلَوْلك الظُّلمِ أعجِبْ بها شُعلاً على فَحَمٍ -- لم تَشْتَعِلْ في ذلك الفحَمِ تلك التي تُهوِي لتلثَمَها -- وتَشمَّها بالأنفِ ذي الشَّممِ والقصيدة طويلة نكتفي منها بما تقدّم من أبيات مزج فيها "ابن الرومي" في تصوير بديع بين وصف الممدوح ووصف الربيع الذي خلع عليه الممدوح بهاءه وجماله. ولـ "بديع الزمان الهمذاني" قصيدة في وصف الربيع، وقد استلهم فيها الربيع في المدح على عادة الشعراء في عصره يقول فيها: برق الربيع لنا برونق مائه -- فانظر لروعةِ أرضه وسمائهِ فالترب بين ممسك ومعنبر -- من نوره بل مائه وروائه والماء بين مُصندل ومكفر -- من حسن كدرته ولون صفائه والطير مثل المحسنات صوادح -- مثل المغنّي شادياً بغنائه والورد ليس بممسك رياه بل -- يُهدي لنا نفحاته من مائه زمن الربيع جلبت أزكى متجر -- وجلوت للرائين خير جلائه ولـ "صفي الدين الحلي" قصيدة في وصف الربيع، يقول فيها: خَلَعَ الرَبيعُ عَلى غُصونِ البانِ -- حُلَلاً فَواضِلُها عَلى الكُثبانِ وَنَمَت فُروعُ الدَوحِ حَتّى صافَحَت -- كَفَلَ الكَثيبِ ذَوائِبُ الأَغصانِ وَتَتَوَّجَت هامُ الغُصونِ وَضَرَّجَت -- خَدَّ الرِياضِ شَقائِقُ النُعمانِ وَتَنَوَّعَت بُسطُ الرِياضِ فَزَهرُها -- مُتَبايِنُ الأَشكالِ وَالأَلوانِ مِن أَبيَضٍ يَقَقٍ وَأَصفَرَ فاقِعٍ -- أَو أَزرَقٍ صافٍ وَأَحمَرَ قاني وَالظِلُّ يَسرِقُ في الخَمائِلِ خَطوَهُ -- وَالغُصنُ يَخطِرُ خِطرَةَ النَشوانِ وَكَأَنَّما الأَغصانُ سوقُ رَواقِصٍ -- قَد قُيَّدَت بِسَلاسِلِ الرَيحانِ وَالشَمسُ تَنظُرُ مِن خِلالِ فُروعِها -- نَحوَ الحَدائِقِ نَظرَةَ الغَيرانِ وَالطَلعُ في خَلَلِ الكِمامِ كَأَنَّهُ -- حُلَلٌ تَفَتَّقُ عَن نُحورِ غَوانِ وَالأَرضُ تَعجِبُ كَيفَ تَضحَك وَالحَيا -- يَبكي بِدَمعٍ دائِمِ الهَمَلانِ حَتّى إِذا اِفتَرَّت مَباسِمُ زَهرِها -- وَبَكى السَحابُ بِمَدمَعٍ هَتّانِ ظَلَّت حَدائِقُهُ تُعاتِبُ جَونَهُ -- فَأَجابَ مُعتَذِراً بِغَيرِ لِسانِ طَفَحَ السُرورُ عَلَيَّ حَتّى إِنَّهُ -- مِن عِظمِ ما قَد سَرَّني أَبكاني فَاِصرِف هُمومَكَ بِالرَبيعِ وَفَصلِهِ -- إِنَّ الرَبيعَ هوَ الشَبابُ الثاني إِنّي وَقَد صَفَتِ المِياهُ وَزُخرِفَت -- جَنّاتُ مِصرَ وَأَشرَقَ الهَرمانِ وَاِخضَرَّ واديها وَحَدَّقَ زَهرُهُ -- وَالنيلُ فيهِ كَكَوثَرٍ بِجِنانِ وَبِهِ الجَواري المُنشَآتُ كَأَنَّها -- أَعلامُ بيدٍ أَو فُروعُ قِنانِ نَهَضَت بِأَجنِحَةِ القُلوعِ كَأَنَّها -- عِندَ المَسيرِ تَهُمُّ بِالطَيَرانِ وَالماءُ يُسرِعُ في التَدَفُّقِ كُلَّما -- عَجِلَت عَليهِ يَدُ النَسيمِ الواني طَوراً كَأَسنِمَةِ القِلاصِ وَتارَةً -- مُتَفَتِّلٌ كَأَكارِعِ الغِزلانِ حَتّى إِذا كُسِرَ الحَليجُ وَقُسِّمَت -- أَمواهُ لُجَّتِه عَلى الخُلجانِ ساوى البِلادَ كَما تُساوي في النَدى -- بَينَ الأَنامِ مَواهِبُ السُلطانِ الناصِرُ المَلِكُ الَّذي في عَصرِهِ -- شِكرَ الظِباءُ صَنيعَةَ السِرحانِ والقصيدة في مدح السلطان "الناصر" وواضح فيها أثر الربيع في البيئة المصرية. ولن أعرض في هذا المقال لوصف الربيع في الأندلس فقد أُلّف فيه الكتب قديما وحديثا، ولعل أهمها قديما كتاب "البديع في وصف الربيع" لـ "الحميري" الذي نشره المستشرق الفرنسي "هنري بيرس"، المدرس بجامعة الجزائر عام 1940، وأُعيد نشره عام 1989، ثم أعاد تحقيقه والتعليق عليه ودراسته الدكتور "عبد الله عبد الرحيم عسيلان" عام 1407هـ ـ 1987م. وأهمها حديثًا كتاب "شعر الطبيعة في الأدب العربي" للدكتور "سيد نوفل"، وقد خصص الفصل الثالث من الباب السادس لوصف الطبيعة في الأندلس، كما خصص الفصل الرابع من الباب نفسه لوصف الطبيعة في مصر، وهو كتاب قيم وجدير بالقراءة وقد أفدت منه كثيرا في رسالتي للماجستير عن الصورة الشعرية عند "ابن خفاجة"، الملقب بـ "جنان الأندلس". ومن الكتب المهمة كذلك كتاب أستاذنا المرحوم الدكتور "سعد إسماعيل شلبي" عن البيئة الأندلسية وأثرها في الشعر عصر ملوك الطوائف عام 1987م. وقد ألقيت نظرة على مكتبتي فأخرجت منها عشرات الكتب التي تتناول الطبيعة في الشعر العربي وبخاصة في الشعر الأندلسي الذي هو مجال تخصصي الدقيق ولولا ضيق المساحة المخصصة للمقال لغصت خلال هذه الكتب واستخرجت من بطونها خير ما قاله الباحثون عن وصف الطبيعة عموما والربيع خصوصا، ولعل رسالتي عن "ابن خفاجة"، وهي تحت الطبع الآن، تضاف إلى هذه الكتب المهمة في تناول شعر الطبيعة في الأندلس. أما عن دواوين الشعراء الأندلسيين فحدّث ولا حرج من حيث كثرتها وأهميتها فيما نحن بصدد الحديث عنه من وصف الربيع وجمال الطبيعة ولعل أهمها دواوين: ابن زيدون وابن خفاجة الأندلسي وابن سهل الأندلسي، وهذه الدواوين الثلاث لقيت من العناية ما جعلها تحقق عدة تحقيقات تتفاوت جودة ودقة ولهذا حديث آخر، وقد عرضت لبعض منه في كتابي: "دراسة في مصادر الأدب الأندلسي" عام 1995م. ولصديقنا الناقد الكبير الدكتور "عوض الغباري" كتاب قيّم عن الطبيعة في الأدب المصري، بالإضافة إلى دراسات أخرى كثيرة عن الأدب المصري لم تخل من حديث عن وصف الطبيعة. ولعل سلسلة تاريخ الأدب العربي للمرحوم الدكتور "شوقي ضيف" تُعدّ كنزا للباحثين في شعر الطبيعة عبر العصور. فإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد "جبران خليل جبران" يتغنّى بالربيع فيقول: هَبَّ زَهْرُ الرَّبِيعْ -- فِي نِظَامٍ بَدِيعْ تَحْتَ أَقْدَامِهَا وَعَوالي الغصُونْ -- نَكَّسَتْ لِلْعُيُونْ نَضْرَ أَعْلامِهَا وَبَدَا في حُلَى -- وَجَهِهَا مَا جَلا نُورَ إِلهَامِهَا إِنَّ هَذِي عَرُوسْ -- تَتَمَنَّى النُّفُوسْ سَعْدَ أَيَّامِهَا لَمْ يُوَفِّ البَيَانْ -- فِي مَقَامِ القِرَانْ حَقَّ إِكْرَامِهَا فَانْتَقَى لِلثَّنَاءْ -- مِنْ فُنُونِ الغِنَاءْ خَيْرَ أَنْغَامِهَا نَجْمُهَا فِي صُعُودْ -- فَلْتَدُمْ وَالسُّعُودْ رَهْنَ أَحْكَامِهَا وعن الربيع يقول "إبراهيم ناجي" في مطلع إحدى قصائده: مرحى ومرحى يا ربيع العامِ -- أشرق فدْتك مشارقُ الأيامِ بعد الشتاء وبعد طولِ عبوسه -- أرِنا بشاشةَ ثغرِكَ البسَّامِ وابعث لنا أرجَ النسيمِ معطرًا -- متخطرًا كخواطر الأحلامِ أما الشاعر "صالح الشرنوبي" فينظر إلى الربيع نظرة مغايرة تنبع من فلسفته في الحياة ومعاناته فيها، وهي مفعمة بالتشاؤم ومترعة بالشكوى، فيقول فيها: قالوا الربيع فقلت لا -- أدريه من عمر الزمان أنا ما عرفت سوى الخريف -- أعيش فيه بلا أمان شرِبته أيامي الحزينة ملء -- أكواب الهوان ورأته روحي عالماً ما فيه -- للسلوى مكان قالوا الربيع فقلت ما -- أشقى حياتي من حياه أو هكذا أمضى وما -- بلّغتُ من أملي مداه أنا ذلك الفجر المحير -- ليس يهديه سناه ضمته أكفان الدجى -- وطوته أحشاء الفلاه ذهب الصبا وقنعت من -- ذكراه بالجمر المذاب وأتى الشباب فخبريني أين -- أحلام الشباب ردي عليّ إذا أردت فملء -- عينيك الجواب وإذا بكيت فلا تقو -- لي شاعر فقد الصواب ويقول "محمود درويش" عن الربيع: وأَمَّا الربيعُ، فما يكتب الشعراءُ السكارى إذا أَفلحوا في التقاط الزمان السريع بصُنَّارة الكلمات... وعادوا إلى صحوهم سالمين قليلٌ من البرد في جَمْرَةِ الجُلَّنار يُخفِّفُ من لسعة النار في الاستعارة لو كنتُ أَقربَ منكِ إلىَّ لقبَّلْتُ نفسي قليلٌ من اللون في زهرة اللوز يحمي السماوات من حجَّة الَوثنَيَّ الأخيرة مهما اختلفنا سَندْرِكُ أَنَّ السعادةَ ممكنةٌ مثل هَزَّةِ أرضٍ قليلٌ من الرقص في مهرجان الزواج الإباحيِّ بين النباتات سوف ينشِّط دورتنا الدمويَّة لا تعرف البذرةُ الموتَ مهما ابتعدنا ولا تخجلُ الأبديَّةُ من أَحَدٍ حين تمنَحُ عانَتَها للجميع هنا... في الربيع السريع ولم يهتم الشعراء وحدهم بفصل الربيع بل كتب عنه أرباب النثر، فهذا "المنفلوطي" يقول عن الربيع في رواية "ماجدولين": "يقولون إن فصل الربيع فصل الحب، وإن العواطف تضطرم فيه اضطرامًا فتأنس النفوس بالنفوس، وتقترب القلوب من القلوب، وتمتلئ الحدائق والبساتين بجماعات الطير صادحةً فوق زواهر الأغصان وجماعات الناس، سانحة بين صفوف الأشجار، أما أنا فلا أصدق من كل هذا شيئًا، فإن أجمل الساعات عندي تلك الساعة التي أخلو فيها بنفسي فأناجيها بهمومي وأحزاني، وأذرف من العبرات ما أبرد به تلك الغلة التي تعتلج في صدري". أما أديب العربية القدير "مصطفى صادق الرافعي" فيخصّ الربيع بمقال في كتابه "وحي القلم"، يقول فيه: "خرجتُ أشهَدُ الطبيعةَ كيف تُصبح كالمعشوق الجميل، لا يقدّم لعاشقه إلا أسبابَ حبه! وكيف تكونُ كالحبيب، يزيدُ في الجسم حاسَّةَ لمسِ المعاني الجميلة! وكنتُ كالقلب المهجور الحزين وجد السماء والأرض، ولم يجد فيهما سماءه وأرضَه. ألاَ كم آلاف السنينَ وآلافِها قد مضت منذُ أُخرج آدمُ من الجنة! ومع ذلك، فالتاريخُ يعيد نفسَه في القلب؛ لا يَحزنُ هذا القلبُ إلا شعر كأنه طُرِدَ من الجنة لساعته. يقف الشاعرُ بإزاء جمال الطبيعة، فلا يملك إلا أنْ يتدفَّقَ ويهتزَّ ويطرَب. لأنَ السرَّ الذي انْبَثَقَ هنا في الأرض، يريد أنْ ينبثق هناك في النفس. والشاعرُ نبيُّ هذه الديانة الرقيقة التي من شريعتها إصلاحُ الناس بالجمال والخير. وكل حُسن يلتمس النظرةَ الحيّة التي تراه جميلاً لتُعْطِيَه معناه. وبهذا تقف الطبيعة مُخْتَلِفَةً أمام الشاعرِ، كوقوف المرأة الحسناء أمامَ المصوّر. لاحت لي الأزهارُ كأنها ألفاظُ حب رقيقةٌ مُغَشَّاةٌ باستعارات ومَجازات. والنسيم حولها كثوب الحسناء على الحسناء، فيه تعبيرٌ من لابسَتِه. وكلُّ زهرة كابتسامة، تحتها أسرارٌ من معاني القلب المعقَّدة. أهي لغةُ الضوء الملوَّن من الشمس ذاتِ الألوان السبعة؟ أم لغة الضوء الملوَّنِ من الخد؛ والشفة؛ والصدر؛ والنحر؛ والدّيباج؛ والحِلَى؟ وماذا يفهم العشاقُ من رموز الطبيعة في هذه الأزاهر الجميلة؟ أتُشير لهم بالزهر إلى أن عُمرَ اللذة قصير، كأنها تقول: على مقدار هذا؟ أتُعْلِمهم أنَ الفرقَ بين جميل وجميل، كالفرق بين اللونِ واللون، وبين الرائحة والرائحَة؟ أتُنَاجيهم بأنَ أيامَ الحب صُوَرُ أيام لا حقائق أيام؟ أم تقولُ الطبيعة: إن كلَّ هذا؛ لأنكِ أيتها الحشراتُ لا تنخدعين إلا بكل هذا؟ (ثبت أن ألوان الأزهار وعطرها وما في ظاهرها وباطنها، كل ذلك لاجتذاب الحشرات إليها كي تنقل اللقاح من زهرة إلى زهرة.) في الربيع تظهر ألوانُ الأرض على الأرض، وتظهر ألوانُ النفس على النفس. ويصنع الماء صُنْعَه في الطبيعة؛ فتُخْرِجُ تَهاويلَ النبات، ويصنع الدمُ صنعَه فيُخرج تهاويلَ الأحلام. ويكون الهواء كأنه من شِفاهٍ متحابَّة يتنفَّس بعضُها على بعض، ويعود كلُّ شيء يلتمع؛ لأنَ الحياةَ كلَّها يَنْبِضُ فيها عِرْقَ النور، ويرجع كلُّ حيّ يُغَنّي؛ لأنَ الحبَّ يُريد أنْ يرفع صوتَه. وفي الربيع لا يضيء النورُ في الأعين وحدها، ولكن في القلوب أيضاً. ولا ينفذُ الهواء إلى الصدور فقط، ولكن إلى عواطفها كذلك. ويكون للشمس حرارتان إحداهما في الدم. ويطغَى فَيَضَانُ الجمال كأنما يراد من الربيع تَجْرِبَةُ مَنْظَر من مناظر الجنة في الأرض. والحيوانُ الأعجمُ نفسُه تكونُ له لفَتَاتٌ عقليةٌ فيها إدراك فلسفةِ السرور والمَرح. وكانت الشمسُ في الشتاء كأنها صورةٌ معلَّقةٌ في السحاب. وكان النهارُ كأنه يضيء بالقمر لا بالشمس. وكان الهواء مع المطر كأنه مطرٌ غيرُ سائل. وكانت الحياة تضع في أشياء كثيرة معنى عُبوس الجوّ. فلما جاء الربيع كان فرحُ جميع الأحياء بالشمس كفرح الأطفالِ، رجعتْ أمُّهم من السفَر. وينظر الشبابُ فتظهرُ له الأرض شابَّة. ويشعر أنه موجودٌ في معاني الذات أكثر مما هو موجودٌ في معاني العالَم. وتمتلئ له الدنيا بالأزهار، ومعاني الأزهار، ووحْي الأزهار. وتُخِرج له أشعةُ الشمس ربيعاً وأشعةُ قلبِه ربيعاً آخر. ولا تنسى الحياة عجائزَها، فربيعُهم ضوء الشمس… ما أعجَبَ سرّ الحياة! كلُّ شجرة في الربيع جمالٌ هندسيٌّ مستقل. ومهما قطعتَ منها وغيرتَ من شكلها أبرزَتْها الحياةُ في جمال هندسيّ جديد كأنك أصلحتَها. ولو لم يبق منها إلا جِذْرٌ حيّ أسرعت الحياةُ فجعلتْ له شكلاً من غصون وأوراق الحياة! الحياة، إذا أنت لم تُفسدها جاءتك دائماً هداياها. وإذا آمنتَ لم تَعُدْ بمقدار نفسك، ولكن بمقدار القوة التي أنت بها مؤمن. {فَانْظُرْ إلى آَثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بعد موتها} [الروم: 50]. وانظر كيف يخلُق في الطبيعة هذه المعانيَ التي تبهج كلّ حيّ، بالطريقة التي يفهمُها كلُّ حي. وانظر كيف يجعلُ في الأرض معنى السرور، وفي الجو معنى السعادة. وانظر إلى الحشَرة الصغيرة كيف تؤمن بالحياة التي تملؤُها وتطمئن؟ انظر، انظر! أليس كل ذلك ردّاً على اليأس بكلمة: لا…؟". وليس لي من تعليق على فلسفة "الرافعي" في فصل الربيع، سوى أني مؤمن بهذه الفلسفة ومقتنع بها وأدعو القرّاء للنظر فيها عساهم يقتنعون بها. وكتب "أحمد حسن الزيات" مقالا بمجلة "الرسالة" عن فصل الربيع في الشعر العربي في 30 من أبريل 1951م، يقارن فيه بين الربيع عند الشعراء العرب والأوربيين، يقول فيه: "إن الذين قَضَوْا يَوْمَ شَمِّ النَّسيم البهيج المَرِح على بِساط الربيع، يَجْتَلُون جمال الطبيعة المتَبَرِّجَة في الزَّهْر والنهر، ويستَوْعِبون أسرار الحياة المنبثَّة في السماء والأرض، يَسرُّهم أن يقرؤوا تعبير الشِّعر عمَّا شهدوه من جَمال النيل، وأحسوه من فتنة وادِيه، ولم يستطيعوا الهُتافَ به ولا التعبيرَ عنه، وما كان أَحَبَّ إلى نفسي أن أُهَيئَ لهم هذا السُّرورَ لو وجدت السبيل إليه؛ فإنِّي قرأْتُ ما نَظَمَ الشعراء المصريونَ: قُدماؤهم، ومُحْدَثوهم في الربيع المصري، فلم أجد فيه على قِلَّته وتبَعِيَّتِه صِدقًا في الشعور ولا مطابقةً للواقع، قرأتُ ما قال ابنُ وكيع التنيسي، وابن سناء الملك، وابن الساعاتي، وابن نُباتة، والشابُّ الظَّريف، وابن مَطْروح، والبَهَاء زُهير، من نوابغ المتقدمينَ؛ ثم قرأتُ ما قال شيوخ الشعر وشبابُه من صفوة المتأخّرينَ، فلم أجد إلا كلامًا عامًّا يُقال في كل ربيع، ووصفًا مجملاً يَصدُق على كل رَوْضة، تعبيراتٌ مَحْفُوظة من لغة الشعر، وتشبيهاتٌ منقولة من مَوْروث البيان، صاغَها كل شاعر على حَسَب طاقته وآلته، فجاءت وصفًا لربيع مجهول لا حقيقةَ له في الخارج، ولا أثَرَ له في الذِّهْن. أمَّا الشُّعورُ النَّفْسِيّ الذي يُدْرِكُ الشاعرُ الأصيلُ في جَوٍّ مُعَيَّن، ومنظرٍ محدود، وزهرة خاصة، فيصل به بين النفس والطبيعة، وبين الفِكر والصورة، وبين الفَن والواقع، فذلك ما لا أَثَر له فيه، ولعلك إذا استَثنَيتَ من أشعار العرب في الربيع، شِعرَ ابن الرومي في العِراق، وشِعر البُحْتُرِيِّ في الشام، وشعر ابن خفاجَةَ في الأندلس، وجدتَ سائرها من هذا النمط المصريّ الذي تجد فيه الألفاظ المُبهَمَة، ولا تجد فيه المعانيَ الملهمة، فأشعارهم في الربيع أشبَهُ بأشعارهم في الغزل، أقلها نفسيّ صادق يصدر عن القلب وينقل عن الوجدان، وأكثرها حِسِّيٌّ كاذِب يَصدر عن الحافظة ويُنقَل عن الكُتَّاب، والمصريون أولى من غيرهم بالعُذر إذا خلا شعرهم من وحي الربيع؛ لأنَّ الرَّبيع الذي يزورُ الأَرضَ في أبريل ومايو، لا يزور مصر إلا في أكتوبر ونوفمبر، فالخريف في مصر هو الربيع الحقُّ في نَضْرَتِهِ وزينته وعِطْرِهِ، فأينما تُدِرْ بصرَكَ في حقول الذرة وقصب السكر والبرسيم، لا تَجِد إلا رياضًا شَجراءَ من شراب وحَبٍّ، ومروجًا فيحاء من زهور وكَلأ، ثم ترى النيل في أعقاب فيضانه؛ كذَوْب التِّبْر ينساب هادِرًا في التُّرَع والقنوات، فيجعل من ضفاف الجداول، وحفافي الطرق، وحواشي الغيطان، سلاسل زَبَرْجَدِيَّة من الريَحان والعُشب، لذلك افْتَنَّ شعراء الريف في وصف الخريف وأبدعوا. للربيع في الشعر الأوربي أرخم الأوتار، وأعذب الألحان من موسيقى الشاعر؛ لأن الشتاء في أوروبا عَناءٌ طويل وهَمٌّ ثقيل: ظلام متكاثف يحجب السماء، ومطَر واكف يغمر الأرض، وبَرْد قارس يهرأ الأجساد، وغَمام متراكم يَسُدُّ الأُفُق، فلا ترى شعاعة شمس ولا خَفْقة طائر، وثلجٌ متراكب يطمر الثرى فلا تَجِدُ عُشْبَةً في مَرْج، ولا زهرةً في حديقة، والناس هناك في حنينٍ دائم إلى الربيع ؛ لأنه في دُنياهم حياة بعد موت، وابتهاج بعد كآبَة، ولشعرائهم فيما يبشرهم بمقدمه رقائق من الشعر الشاعر، تقرؤها في البُشْريات الأولى؛ كشيوع الدفء في النسيم، ودبيب الحياة في الشجر، وعودة العُصفور المهاجر إلى عُشه، وخرير الجدول الجامد بعد صمته، فإذا أقبل الربيع مَتَّعَهم بما حُرِموه طويلاً من جَلْوة الطبيعة في الأفق المشرق، والروض البهيج، والجو المعطَّر، والطير الصادِحَة، والضواحي الأنيقة، والغابات الوريفة، والمنتزهات اللاعبة، والربيع الأوروبي على الجملة تغيير في النفس وتجديد في الحياة، والتغير والتجَدُّد يُلْهِمان القرائحَ الخلاقة شعرًا يمتزج فيه الوجدان بالوجود، ويتصل به الخيال بالحقيقة. أما شعراؤنا المصريّون: فأيُّ جديد يأتيهم به الربيع في آفاقِهم وفي أنفسهم! إنَّ الشَّمْسَ والدفء والصحو والطير والزهر والزرع والماء من خصائص مصرَ الطبيعية، لا تَنْفَكُّ عنها طِيلَةَ العام، حتى ألِفَتْها المشاعر والنفوس، فلا تَشتاقُها لأنَّها لا تَغيب، ولا تحتاجُها لأنها لا تنقَطِع، ومن هُنَا تَشابَهَتِ الفصول الأربعة في حِسِّ الشاعر؛ فلا يكادُ يرى اختلافًا بينها إلا في حَيَوِيَّة الشتاء وشاعريَّة الخريف، ولذلك لم يَجِدِ الشعراء ما يقولونه في الربيع، فإذا قالوا مدفوعينَ بغريزة المحاكاة أو بشهوة المُعارضة، قالوا كلامًا قد يكون مُنَضَّدَ الألْفَاظ، مُجوَّدَ التشابيه، ملوَّنَ الصور؛ ولكنَّ الفرق بينه وبين الشعر الصحيح، يكون كالفرق بين الجماد والحيّ، أو بين الدُّمية والمرأة. ولقد نظرتُ في شِعرنا القديم والجديد فلم أرَ شاعرًا قبل شوقي ولا بعده خَصَّ الربيع بقصيدتَينِ من مُحْكَم الشِّعر وجَيِّده، إحداهما طويلةٌ مستقِلَّة، أَهداها إلى الكاتب القَصصي (هول كين)، والأُخرى قصيدة تابعة جعلها صدرًا لقصيدته التي نَظَمَهَا في المهرجان الذي أُقيم لتكريمه، يقول في الأولى: آذَارُ أَقْبَلَ قُمْ بِنَا يَا صَاحِ -- حَيِّ الرَّبِيعَ حَدِيقَةَ الأَرْوَاحِ وَاجْمَعْ نَدَامَى الظَّرْفِ تَحْتَ لِوَائِهِ -- وَانْشُرْ بِسَاحَتِهِ بِسَاطَ الرَّاحِ صَفْوٌ أُتِيحَ فَخُذْ لِنَفْسِكَ قِسْطَهَا -- فَالصَّفْوُ لَيْسَ عَلَى الْمَدَى بِمُتَاحِ وَاجْلِسْ بِضَاحِكَةِ الرِّيَاضِ مُصَفِّقًا -- لِتَجَاوُبِ الأَوْتَارِ والأَقْدَاحِ إلى أنْ يقول: مَلَكَ النَّبَاتُ فَكُلُّ أَرْضٍ دَارُهُ -- تَلْقَاهُ بِالأَعْرَاسِ وَالأَفْرَاحِ مَنْشُورَةً أَعْلامُهُ مِنْ أَحْمَرٍ -- قَانٍ وَأَبْيَضَ فِي الرُّبَى لَمَّاحِ لَبِسَتْ لِمَقْدَمِهِ الْخَمَائِلُ وَشْيَهَا -- وَمَرِحْنَ فِي كَتِفٍ لَهُ وَجَنَاحِ الوَرْدُ فِي سُرَرِ الْغُصُونِ مُفَتَّحٌ -- مُتَقَابِلٌ يُثْنِي عَلَى الفَتَّاحِ ضَاحِي الْمَوَاكِبِ فِي الرِّيَاضِ مُمَيَّزٌ -- دُونَ الزُّهُورِ بِشَوْكَةٍ وَسِلاحِ مَرَّ النَّسِيمُ بِصَفْحَتَيْهِ مُقَبِّلاً -- مَرَّ الشِّفَاهِ عَلَى خُدُودِ مِلاحِ هَتَكَ الرَّدَى مِنْ حُسْنِهِ وَبَهَائِهِ -- بِاللَّيْلِ مَا نَسَجَتْ يَدُ الإِصْبَاحِ يُنْبِيكَ مَصْرَعُهُ، وَكُلٌّ زِائِلٌ -- أَنَّ الْحَيَاةَ كَغَدْوَةٍ وَرَوَاحِ وَيَقَائِقُ النَّسْرَيْنِ فِي أَغْصَانِهَا -- كَالدُّرِّ رُكِّبَ فِي صُدُورِ رِمَاحِ وَاليَاسَمِينُ لِطِيفُهُ وَنَقِيُّهُ -- كَسَرِيرَةِ الْمُتَنَزِّهِ الْمِسْمَاحِ مُتَأَلِّقٌ خِلَلَ الْغُصُونِ كَأَنَّه -- فِي بُلْجَةِ الإِصْبَاحِ ضَوْءُ صَبَاحِ ثم يقول في الأخرى: مَرْحَبًا بِالرَّبِيعِ فِي رَيْعَانِهِ -- وَبِأَنْوَارِهِ وَطِيبِ زَمَانِهْ زُفَّتِ الأَرْضُ فِي مَوَاكِبِ آزَا -- رَ وَشَبَّ الزَّمَانُ فِي مِهْرَجَانِهْ نَزَلَ السَّهْلَ ضَاحِكَ الْبِشْرِ يَمْشِي -- فِيهِ مَشْيَ الأَمِيرِ فِي بُسْتَانِهْ عَادَ حَلْيًا بِرَاحَتَيْهِ وَوَشْيًا -- طُولَ أَنْهَارِهِ، وَعُرْضَ جِنَانِهْ لَفَّ فِي طَيْلَسَانِهِ طُرَرَ الأَرْ -- ضِ فَطَابَ الأَدِيمُ مِنْ طَيْلَسَانِهْ سَاحِر فِتْنَةِ العُيُونِ مُبِينُ -- فَصَّلَ الْمَاءَ فِي الرُّبَا بِجُمَانِهْ عَبْقَرِيُّ الْخَيَالُ، زَادَ عَلَى الطَّيْـ -- ـفِ، وَأَرْبِى عَلَيْهِ فِي أَلْوَانِهْ صِبْغَةُ اللهِ؛ أَيْنَ مِنْهَا رَفَائِيـ -- ـل، ومِنْقَاشُهُ وَسِحْرُ بَنَانِهْ؟ رَنَّمَ الرَّوْضَ جَدْوَلاً وَنَسِيمًا -- وَتَلا طَيْرَ أَيْكِهِ غُصْنُ بَانِهْ وَشَدَتْ فِي الرُّبَا الرَّيَاحِينُ هَمْسَا -- كتَغَنِّي الطَّرُوبِ فِي وِجْدَانِهْ كُلُّ رَيْحَانَةٍ بِلَحْنٍ؛ كَعُرْسٍ -- أُلِّفَتْ لِلْغِنَاءِ شَتَّى قِيَانِهْ نِعَمٌ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ شَتَّى -- مِنْ مَعَانِي الرَّبِيعِ، أَوْ أَلْحَانِهْ هذه وتلك أبيات من قصيدتَي شوقي في الربيع؛ وهما مِثَالان من الشِّعر العالي الطبقةِ الرفيع النَّسَق إذا وازنَّاهُما بالمأثور من الشعر المصري في هذا الباب، وربما انقَطَع نظيرهما، أو ندر في الشعر العربي كلِّه! ولكننا إذا وازناهما بما قرأنا في موضوعهما من الشعر الأوروبي شالَت كِفَّتهما في هذه الموازنة؛ فإن شوقي - رحمه الله - جرى على مذهب من سبقوه، فلم يصف فيهما ربيعًا بعينه، في إقليم بعينه، يصح أن يخلط به نفسه، ويضيف إليه شعوره، ويَعرض ما يرى فيه من شجر، وطير، وعطر، وفُتون، على ما يجد في نفسه من حُب وذِكرى ونشوة وصَبَابة ؛ فيأتلف المنظر والناظر، ويتحِد الشعور والشاعر؛ إنما وصف شوقي ربيعًا عامًّا كما تَخَيَّلَه لا كما رآه، وكما تَمَثَّله لا كما أَحَسَّه، فجاء الوصف معجمًا مبهمًا قد يعجب ويطرب بألفاظه، ولكنه لا يؤثر ولا يعرب بمعانيه، والقصيدتان على أيِّ اعتبار مشاركة جميلة من الشعر المصري للشعر العالمي في تمجيد ذلك السر، الذي يَبُثُّه الله كل عام في الربيع، فيُعيد الحياة، ويرجع الشباب، ويُجَدد الأمل، ويَنْشُر الجمال، وينشأ عنه في الدنيا هذا البَعْث العجيب." والربيع هو فصل الجمال والتجدد، حيث تتفتح الأزهار وتزدهر الطبيعة بألوانها الزاهية وروائحها العطرة فتتجلى قدرة الخالق في أبهى صورها، حيث تتناغم الألوان والأصوات في مشهد بديع يسر الناظرين. والربيع تأثير على المزاج والإبداع فهو من أكثر الفصول التي تترك تأثيرًا عميقًا على المزاج والإبداع البشري، فمع قدوم الربيع، تبدأ الطبيعة في إظهار جمالها بأبهى حلة، حيث تتفتح الأزهار وتخضرّ الأشجار وتغرّد الطيور، مما يخلق بيئة مثالية لتحفيز الحواس البشرية، وهذا التغيير الجذري في المشهد الطبيعي لا يقتصر تأثيره على الجوانب الجمالية فقط، بل يمتد ليشمل الجوانب النفسية والعاطفية والإبداعية للأفراد، فالألوان الزاهية والروائح العطرة التي تملأ الهواء تلعب دورًا كبيرًا في تحسين الحالة النفسية، والأبحاث العلمية تشير إلى أنَ التعرّض للطبيعة يمكن أن يقلل من مستويات التوتر والقلق، ويعزز الشعور بالسعادة والرفاهية، والألوان الزاهية مثل الأخضر والأصفر والوردي التي تميز الربيع تسهم في رفع المعنويات وتحفيز الشعور بالإيجابية، كما أن الروائح العطرة للأزهار مثل الياسمين تعمل على تهدئة الأعصاب وتحسين المزاج. ومن ناحية أخرى، يلعب الربيع دورًا مهمًّا في تحفيز الإبداع، فالبيئة الطبيعية المتجددة والمليئة بالحياة توفّر مصدر إلهام لا ينضب للفنانين والكُتّاب والمبدعين من مختلف المجالات، والأجواء المعتدلة والسماء الصافية تشجع على الخروج والاستمتاع بالطبيعة، مما يفتح آفاقًا جديدة للتفكير والإبداع. علاوة على ذلك، فإن الربيع يشجع على النشاط البدني والاجتماعي، مما يسهم في تحسين الصحة العامة والشعور بالانتماء، كما أن الأنشطة الخارجية مثل المشي في الحدائق أو ممارسة الرياضة في الهواء الطلق تصبح أكثر جاذبية في هذا الفصل، مما يعزز من مستويات الطاقة والنشاط، وهذا النشاط البدني المتزايد ينعكس إيجابًا على الصحة النفسية، حيث إن ممارسة الرياضة تساهم في إفراز هرمونات السعادة مثل الإندورفين، مما يعزز الشعور بالراحة والسعادة. ولا يقتصر تأثير الربيع على الأفراد فقط، بل يمتد ليشمل المجتمعات ككل، فالفعاليات والمهرجانات التي تقام في هذا الفصل تعزز من الروابط الاجتماعية وتخلق فرصًا للتفاعل والتواصل بين الناس، كما تسهم في تعزيز الشعور بالانتماء والتلاحم الاجتماعي، مما ينعكس إيجابًا على المزاج العام للمجتمع. ويمكن القول إن فصل الربيع يحمل في طياته العديد من الفوائد النفسية والإبداعية، فتأثيره الإيجابي على المزاج والإبداع يجعل منه فصلًا مميزًا يستحق الاحتفاء به، ومن خلال التفاعل مع الطبيعة والاستمتاع بجمالها، يمكن للأفراد أنْ يجدوا مصدرًا لا ينضب للإلهام والسعادة، مما يعزز من جودة حياتهم ويجعلهم أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة بروح إيجابية ومبدعة. ولكن أعداء الطبيعة يدمّرون الأخضر واليابس في غزة منذ عامين فيقتلعون الأشجار ويدمرون الحقول والمباني الأثرية الجميلة وهي جزء من الطبيعة، دون وازع من ضمير وأنّى لهم ذلك، ودون رادع من أحرار العالم الذين يقفون مكتوفي الأيدي أمام إجرام الصهاينة في فلسطين عموما وغزة خصوصا، فهل تنتصر أحزاب الخضر التي تتنادى بالحفاظ على الطبيعة لهؤلاء؟ وهل يستيقظ الضمير العربي والإسلامي فيسعى العرب والمسلمون لنصرة إخوانهم الذين يدافعون عن شرف الأمة؟ وهل يستيقظ الضمير العالمي قبل فوات الأوان؟! عسى ألا تكون استغاثة إخواننا في غزة على مرأى ومسمع من العالم صرخة في واد ونفخة في رماد سوف يلطخ وجه البشرية بالعار، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. د. شعبان عبد الجيِّد (كاتب من مصر)

وحيُ الطبيعة.. والربيعُ الأحمر!

"الربيعُ في هـــذا الكونِ القديمِ هو شبيبتُه المتجددة، والزهرُ من الربيع هو ابتسامتُه التي تفترُّ عنـــــها بشاشتُه المـــــــتورِّدة"! (عبد الرحمن صدقي). لا تزالين مثلما كنتِ (ليلَى) -- في ربيعٍ من الجـمالِ الرفيفِ وأنا الآن فـي الكهولةِ تمضي -- أمسياتي إلـى ذُبولِ الخريفِ! (البيتان من نظم الكتب) ونحن أطفالٌ في القرية، لم نكن نَعرِفُ من فصول السنة غيرَ الشتاء والصيف، ولم يكن الناسُ في مجملهم يتكلمون إلا عنهما. وحين امتد بنا العمر قليلًا حدثونا في المدرسة عن الربيع والخريف، فأخذنا نميِّز بينهما بعض التمييز؛ وإن ظلوا يعلموننا أن مصر دولة إفريقية، مناخها معتدل، لا استوائيٌّ ولا قارِّي، وهو حار جاف صيفًا، دفيء ممطر شتاءً. الربيعُ في القرية كانت الحقول في الريف مزدانةً بالخُضرة طوالَ العام، وشجرُ الكافور الذي ينتشر في أرجائها لا تجفُّ أوراقُه أبدًا، وتتناثر هنا وهناك أشجارٌ دائمة الخضرة، يتفيَّؤ ظلالَها العابرون والمجهَدون، ويقصدها للنزهة راغبو المتعة والاستجمام. وأينما قلَّبتَ بصرك شاهدت مروجًا نضيرة، وكرْمًا غضًّا، وأرضًا مفروشةً ببِساطٍ سندسي حاكته يد القدرة التي لا تدانيها قدرة، وأبدعت تكوينَه الصنعة التي لا تحاكيها صنعة. وحين أدركنا زمن الربيع ومعناه، وجدنا للأرض كلها شكلًا آخر، انتقلت معه من (الوظيفة) إلى (الغاية)، ومن (المنفعة) إلى (الجمال)، ومن (المعاش) إلى (المنظر). ولم تكن بشائره تهلُّ حتى تعاودَني أبياتُ "البحتري" الذائعة، وإن كانت لا تنطبق بتمامها على ما كنت أرَى: أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً -- منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا وَقَد نَبّهَ النّوْرُوزُ في غَلَسِ الدّجَـى -- أوائِـلَ وَرْدٍ كُـنّ بالأمْسِ نُوَّمَا يُفَتّقُهَا بَــــــرْدُ النّدَى، فـكَـأنّهُ -- يَنِثُّ حَـــديثاً كانَ قَــــبلُ مُكَتَّمَا وَمِنْ شَجَـرٍ رَدّ الرّبـــــــــيعُ لِبَاسَهُ -- عَلَيْهِ، كَمَا نَشَّرْتَ وَشْـــياً مُنَمْنَما أحَـلَّ، فأبْدَى لِلْعُـيونِ بَشَاشَةً -- وَكَانَ قَذًى لِلْعَينِ، إذْ كانَ مُحْرِما وتتداعى إلى ذاكرتي أبيات "أبي تمام" التي يصف فيها ذلك الربيعَ الحي، الشاخص المتحرك المتدفق، المتحمل بالطيوب والعطور والألوان، المتخفي في ثياب الحسان: يا صــاحبي تقصَّـيا نظريكما -- ترياٍ وجوه الأرضِ كيف تصور تَـــريا نهاراً مشمساً، قـــــــد شابهُ -- زهـــــر الربى، فكأنما هو مُقمرُ دنيا معاش للـورى، حــتى إذا -- حَـــــل الربيــع، فإنما هي منظر أضحت تصوغ بطونها لظهورها -- نَـــوْرا تكاد له القــــلوب تُنَــور من كل زاهرةٍ ترقــــــرق بالندى -- فكأنها عــــين إلــــــــــيكَ تحــدرُ تبــــدو، ويحجبها الجميمُ، كأنها -- عـــــذراء تبــــــدو تارةً، وتخـفرُ حتى غدت وهداتها ونجــــــادها -- فئتين فــــي خِــــلع الربيع تبخترُ مُصفرّة، مُحـــمرّة، فــكأنها -- عصب تيمن في الورى وتمضر من فــــاقع غصن النــبات، كأنه -- درٌ يشقق قـــــبل ثـــم يُـــــزُعفرُ أو ســــاطع في حمرةٍ، فكان ما -- يدنو إليـــــــه من الهواء مُعصفرُ صبغ الـذي لولا بدائع لطفه -- ما عاد أصــفر بعد إذْ هو أخضرُ أدركت في الربيعِ، مما عاينت وقرأت، سرَّ الطبيعة وروحها؛ وعرَفت لماذا هي مصدر إلهام الأديب والفنان، وأيقنت أنها كما قيل: إلف الشاعر الحميم، وتوءَم روحه، ومرتع فكره ومتاع بصره، ومهبط وحيه، ومعاهد متعاته وذكرياته. إلى ظلالها يسكن، وبين محاسنها يهيم، وعندها ينفض هموم العيش ويطرح أعباءَه، وتتهادى إليه عذارى الشعر طائعة، وتسلس إليه شواردُ الأفكار مقادَها، ويظلُّ يلتفت إلى ماضي أوقاته بين مباهجها بحنينٍ عذْب، ويأمل معاودتها بقلبٍ شيِّق. فلا غَروَ أن يكون للطبيعة في نفس الشاعر المطبوعِ مكانٌ أثير، وفي أدب الأمة الراقية منزلةٌ رفيعة. شعرُ الطبيعة في الأدب العربي وأذكر أن الدكتور "سيد نوفل" حين بدأ بحثه عن "شعر الطبيعة في الأدب القديم"، وطالع به عميد الأدب العربي "طه حسين"، سأله الرجلُ بأسلوبه الساخر: وهل في الأدب العربي شعرٌ للطبيعة؟! فأجاب في حماسة الشباب، شارحًا وجهة نظره وكان مما قاله: إن شعر الصعاليك أو العدَّائين، الذين عاشوا في البادية وعايشوا حيوانها واندمجوا فيه وعبّروا عن عيشتهم ومعايشتهم - هذا الشعر هو في طليعة شعر الطبيعة في الأدب العربي. كما أن الوقوف بالأطلال، كما فهمته بمعناه الشامل لبيئة الحبيبة الراحلة، وكذلك رحلة الشاعر المبكرة للصيد ووصف مظاهر الطبيعة ـ هما من فنون شعر الطبيعة العربي المبكرة، فضلًا عما تلا ذلك من فنون أعظم وأبين تعبيرًا. ولا أدري: هل بالغ الدكتور "سيد نوفل" حين أخرج كتابه عن "الطبيعة في الأدب العربي"، وحمَّل النصوص فوق ما تحتمل، أم أنه فتح به بابًا كان مغلقًا، وأحيا موضوعًا كان مهمَلًا؟! أيًّا ما كان الأمرُ، فإن رُوح الشعر العربي القديم، كما يقول الدكتور "محمد حسين هيكل" في تقديمه لذلك الكتاب، قد بقيت متسلطةً على شعراء العربية في الأمم المختلفة التي تكوَّنت منها الإمبراطورية الإسلامية، رغم اختلاف بيئتها عن بلاد العرب، ورغم تعاقب الأجيال والثقافات التي فصلت بين ذلك العهد الأول في شبه الجزيرة، وبين ما كان في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة. وأقصد برُوحِ الشعر العربي القديم هذا الرُّوحَ البدويَّ الذي يجعل الفردَ يَرُدُّ كلَّ ما في الوجود إلى ذاته، وقلَّ ما يفكر في مجموعٍ هو أحد أفراده، إلا بقدر ما يفيد هو لِذَاته من هذا المجموع. ولا أريد أن أترك هذا الرأي دون أن أشير إلى ما نبَّه إليه الأستاذ "أحمد أمين" حين قال: إن طبيعة الشعر العربي الأول طبيعةٌ بدوية، فهو يتغنى بمناظر البدو من صحراء ووديان، وحيوانات البدو من ظباءٍ وأوعال، ونباتات البدو من شيحٍ وقيصوم. على هذا نشأ الشعر العربي، وعلى هذا نشأ العرب الفاتحون للأقاليم؛ فلا يستسيغ ذوقهم أن يتغنَّوا بإيوان كسرى، ولا أهرام مصر، ولا يستسيغ ذوقهم أن يتغزّلوا في النرجس والياسمين، وقد تغزَّل آباؤهم بنباتات الصحراء، ولا يستسيغ ذوقُهم أن يشيدوا بذكر النيل والفرات، وقد شاد آباؤهم بذكر الغياض. إن الشعر في هذه الأمور الجديدة يحتاج إلى مِرانٍ للذوق طويل. ولو أنك نظرتَ إلى كثيرٍ من الشعر الذي قاله العرب النازحون إلى المدن المفتوحة لم تجده وصفًا لهذه البلاد، وإنما هو حنينٌ إلى بلاد العرب، وبكاء عليها، وشوق إلى العودة إليها؛ وكأنما العربي لا يشعر إلا في بيئته. إن أوصاف الطبيعة في العربية، مع روعتها وجودتها، قليلةٌ جدًّا، لا تبلغ معشار ما قيل في التشبيب بالجمال الإنساني، ولم يُعرَف من شعراء العربية من قصَرَ شعرَه على التغني بمباهج الطبيعة، وإن منهم من قصَرَ قولَه على النسيب بهندٍ وليلى وأترابهما. ويذهبُ الأستاذ "فخري أبو السعود" إلى أن العرب لمَّا تحضروا، وشاهدوا الأقطار الواسعة، ونعموا في الجنات اليانعة، ودخل أدبُهم في طور الثقافة والصناعة الفنية، ظهرت آثار الوصف الطبيعي في بعض أشعارهم، ولكنها كانت قليلةً كما تقدَّم، وعمهت عيون أكثر الشعراء عن محاسن الطبيعة وأسرارها في غمار المدينة، حيث تكأكأوا متزاحمين على عطايا الأمراء، وزهَّدهم في وصف المناظر الطبيعية قلةُ ما ورد منها في شعر المتقدمين الذين كانوا يترسَّمون خطاهم، حتى إذا كان عهد الاضمحلال الأدبي، غلب التظرُّفُ واصطناع الرقة والنكتة اللفظية على الشعر، ففقد كلّ حرارة، وجاء أكثره باهتًا ومتكلَّفًا، تنقصه حرارة الهُيام بالطبيعة، والامتزاج بروحها، والنفاذ إلى معانيها وأسرارها. من البديع في وصف الربيع وهنا أحيل القارئ إلى كتابين مهمين تناولا ذلك الموضوع تناولًا وافيًا، في إقليمين إسلاميين كبيرين، وزمنين تاريخيين مختلفين: أولهما "البيئة الأندلسية وأثرها في الشعر، عصر ملوك الطوائف" للدكتور "سعد إسماعيل شلبي"، وكتاب "شعر الطبيعة في الأدب المصري، القرن الرابع الهجري" للدكتور "عوض علي الغباري". ولا بأس أن أقدّم له هذه المقطوعات الثلاث الطريفات، من كتاب "البديع في وصف الربيع" لأبي الوليد إسماعيل بن عامر الحميَري (توفي 440 هـ)، وقد حاول أن يجمع فيه أغرب التشبيهات، وأعجب الصفات، وأبرع الأبيات، وأبدع الكلمات: وروضــــــةٍ مشـــــرقةٍ -- بِـــكل نَـــــــــــورٍ مجتنَى فيـــــها بَــهــــــارٌ باهرٌ -- ونـــــرجس يشكو الضنَى وياسميـــــــن أرضُــــهُ -- ونَـــــــــورُه تــلــــــــــوَّنا كالليل مُخْضَــــرٌّ ولـــــ -- ــــــــكنْ بالنجـــــومِ زُيِّنا **** إن كان وجـــه الربيع مبتسمًا -- فالســوسن المجـــتلَى ثناياهُ يا حُسنَه من ضـــــاحك عبق -- بطيـــــب ريَا الحبيب رياهُ خــــاف عليه الحسود عاشقه -- فاشتق مــــــن ضدِّه فسمَّاهُ وهــــو إذا مغــــــــرمٌ تنسَّمه -- خلَّى على الأنفِ منه سيماهُ كما يخــلِّي الحبيبُ غــــــاليةً -- في عـــــارضَي إلفِه لذكراهُ *** وبنت أيْكٍ كالشـــــباب النضْــرِ -- كأنها بين الغصـــــــــون الخُضرِ جـــــــنانُ بازٍ أو جـــنانُ صقرِ -- قــــــــــد خلَّفته لِـــقْوةً بـــــــــوكْرِ كأنـــــــما مجَّت دمًا مـــن نحرِ -- أو سُقِيَت بجدولٍ مــــــــــــن خمرِ لــــو نبتت فــي تربةٍ من جمرِ -- لو كفَّ عنها الدهرُ صَـرفَ الدهرِ جاءت بمثل النهدِ فوق الصدرِ -- تفترُّ عـــــن مـــــثل اللثـاث الحُمْرِ في مثلِ طعمِ الوصلِ بعد الهَجرِ الربيعُ المصري يذكر الأستاذ "الزيات" أنَّ الربيعَ لا يكادُ يُقبِلُ على أوروبا حتى تختلط أناشيدُ الشعراء وأغاريدُ البلابل في تمجيدِه وإعلانه، لأنه يفدُ إليهم فيرد عليهم النورَ والدفء والزهر والجمال والحركة. أمَّا نحن فلا نكاد نفطن لحلوله ولا لرحيله؛ لأن العامَ كلَّه على ضفاف الوادي يومٌ من أيام الربيع، فجرُه النَّدِيُّ يناير، وضحاه الزاهرُ أبريل، وظُهرُه الساطعُ يوليو، وأصيلُه الرخيُّ أكتوبر. فليس للربيعِ المصريِّ على سائر الفصول فضلٌ إلا بذلك السرِّ الإلهي الذي تتشقّق عنه الأرض فيسري في العود، ويشيع في الجو، ويدبّ في الأجسام، وينشأ عنه هذا البعث الصغير، حين تتيقّظ الطبيعة من رقادها الطويل، ويتأهب كلُّ حيٍّ  ليحتفل بشبابها العائد وجمالها المبعوث؛ فالحياة الهامدة تنتعش في الغصون الذابلة، والطيور النازحة تعود إلى الأعشاش المقفرة، والأفنان السليبة تنفطر بالأوراق الغضة، والنسيم الفاترُ يروض أجنحته ليحمل إلى الناسِ رسالة الزهور، وسر الحياة يستعلن في الأحياء فتنتشي وتمرح، وطيوف الهوى تمس القلوب فتهفو وتختلج، والعالم كله يسبح في فيضٍ سماويٍّ من الجمال والنشوة والغبطة؛ اللهم إلا الإنسان! ومن بديع الشعر الذي طالعته في وصف الربيع وما يحدثه في الطبيعة حين يلمسها بعصاه السحرية؛ فيحيل الدوحة الذابلة خضراء مورقة، والأرض الماحلة ربى فاتنة ـ قصيدة (جاء الربيع)، للشاعر "إبراهيم محمد نجا" (مجلة الآداب، أبريل، 1953) ومنها قوله: وكانت هــــنا دوحــــــــةٌ ذابلهْ -- أرى الأرضَ من جولِها ماحلهْ فلا ورقٌ ضاحكٌ في الغصون -- ولا بهجـــــــــة في الرُّبا ماثلهْ تــــــراها فتــحســـــبها ثـــاكله -- مقيَّـــــــدةً بالأسَـــــى ذاهـــــلهْ وقد وقفت عنـــــــــد قبر ابنِها -- تعاني فجيــــــعتَها القـــــــــاتلهْ ومرَّ زمـــــــــانٌ، فماذا أرَى؟ -- أرى منظــــرًا يبـــــهر السـابلهْ ربًى فاتنات بأزهــــــــــــارِها -- غصــــونًا بأثمارها حــــــــافلهْ فتبصــرها مــــن صُـــبـاباتها -- عـــــــلى مهدِها أبــــــــدًا ماثلهْ فما السرُّ يا نفسُ فيــــما أرى -- وفــــي هـــــــذه الوحشة الزائلهْ؟ فقالت ليَ النفسُ فـــــي رقَّةٍ: -- تمتع بهذا الجـــــمال الـــــــــبديع فقد زال عنَّا زمــــانُ الشتاء -- وقد جـــــــــاء بعد الشتاء الربيع! ولم أزل أذكر حين درسْنا ونحن في أول المرحلة الإعدادية، قصيدة "الربيع في القرية"، للشاعر (فوزي العنتيل)، وكيف كنت أترنّم بها منتشيًا بوقعها وإيقاعها، مُتعجبًا من ذلك الحزن الذي كنت أحسه فيها دون أن أدري يوم ذاك جوهرَه ولا مصدرَه: أنـا لَسْتُ أنْـسَـى قَــــــــــرْيَتـي -- وَهَـــــوَى الـرَّبيعِ يزورُهَـا فَتَـمُــوجُ فِيهِ حُـــــــــــــقُولُـهَـا -- وَنَـخِيلُـهَـا وَطُــــــــــيُورُهَـا وَعـــــــــــلىَ صِيَاح دَجَـاجِهَـا -- الـوَثَّابِ تَصْــــــحُو دُورُهَـا تَسْـــتَقبلُ الْفَجْــــــــــرَ الجمِيلَ -- وقَــــــــــــــدْ أَطَـلَّ يُنـيرُهَـا وَتَــــــــــرَى الـيَنَــابِيعَ الشهِيَّةَ -- حِــيــــــــــــنَ رَقّ هَدِيـرُهَا وَهُـنَـاكَ أجْنِـــــــــــحَـةُ النَّسَـا -- ئِـمِ وَالـحَـــــــــــنَانُ يُثِيرُهَـا تَطْـــفُـو عَـــــــلى الـيَنـبُـوع -- كَيْمَـا تَسْتَحــــــــِمَّ عُطُورُهَـا *** هِـــــــــي ذِكْـــرَياتٌ لَمْ تَزَل -- مَحْفُـورَةً فِـــــــــي خَاطِـرِي هِـــــــــيَ ذِكْـــرَيَات لَمْ تَزَلْ -- تَسْقِـي خَــــــرِيفَ الشاعِـرِ يَا وَاحَـةَ العُمْرِ الجَـــــــديبِ -- عَلَى الطَّــــــريقِ السـاحِـرِ أنَا عَائـــدٌ يَوْمًـــــــــــا إلَيـكِ -- مَـــــــــــعَ الربيع الـزاخِـر فِــي نَسْمَةِ الشمسِ الوَضِيئَةِ -- فِــــــــــــي الـنسِيمِ العــابر فــــــــــي لَهْفَـةٍ خَفَقَتْ بِهَــا -- رُوحُ المُحِبِّ الــــــــــذاكِـرِ ولا أخفي على القارئ الكريم أنني كنت، ولا زلت، أعود إلى هذه القصيدة، وغيرِها مما يشبهنا مبنى ومعنى، وأتعجَّب من ذلك الارتباط الشرطي، كما يقول علماء النفس، بين شعرائنا والطبيعة، وبخاصة في فصل الربيع، وكيف يخلعون عليها أصداءَ مشاعرهم وأحوال نفوسهم؛ حتى "إيليا أبو ماضي" الذي عُرِف بأنه "داعية الابتسام والتفاؤل"، يقول في قصيدة (الزمهرير في نيسان) شاكيًا من تقلب الطبيعة: رَجَــــــعَ الزمـهـــرير أمسِ إلينا -- ورجَــعنا نـشـكو من الزمهــريرِ جاء نيسانُ كالح الأفق عــــاريَ -- الأرضِ حـــيــران كاليتيم الفقيرِ أو كملك داسَ الـــــغزاة حِــــماهُ -- فهو فـــــــــــي حَيرةٍ وفي تفكيرِ أو فتــــاةٍ مفجـــــــــوعةٍ بحبيبٍ -- مات فـي وجهها ضياء السرورِ إيه نيسانُ قــــــــد أتيتَ ولـــكن -- بمحــــــــــيَّا إفكٍ وهـــــالةِ زُورِ لا دليلٌ على وجودِك يا شـــهرَ -- الأقـــــــاحي سوى غناء الطيورِ ليت شعري مـــــــاذا دهاكَ فلم -- تُخرِجْ لنا الزهرَ من وراء الستورِ؟ نجن لولا الحسابُ خِلناكَ لم تو -- لَد وأن الشـــهورَ غيـرُ الشهــورِ وقريبٌ من ذلك ما نظمه "حَسَن كامل الصيرفي" في قصيدة "الربيع الباهت"، (مجلة أبولُّو، مارس 1933): دارت فصـــولُ العامِ لكن الأسَى -- قـــد عكَّر الصافي وشَــوَّه دورتَهْ فأتى ربـــــــيعٌ كالمريضِ محطَّمٌ -- أطيارُه فـــــــي منتـــــــداها ساكتَهْ وزهوره ليست زهـــــــورًا إنما -- هي من ثرى الأرماس كانت نابتهْ سكبَ الأسَى ماءً عـــــلى ألوانها -- فمحـــا طــــلاوتها فبــــاتت باهتهْ لا تستثير العينَ فـــي نظــــراتها -- فكأنها جسدُ البَــــــــغيِّ المــــــائتهْ حتى النسيم يميل عــن أغصانها -- عـــــفًّا فـــــــألمحُها دوامًا ثابــــتهْ عكفَت عـلي يأسٍ كغانيةٍ مضَت -- فـــــــي الدَّير عـــاكفةً هنالك قانتَهْ ونجد مثل هذه الروح الشاكية في قصيدة "الربيع الغريب" للشاعر "إدوار حنا سعد" (مجلة الهلال، يونيو، 1976): يا مجالي الربيع يا صورة الخــــلد -- ووادي العــــــــــطور والأضواءِ أشـــــرقت بعد غيــــــــمةٍ وتحلَّت -- بعد عُطلٍ ووشِّحَـــــــت بالصفاءِ لا تمدي الرواءَ في مسرح الشَّجْوِ -- ولا تُنشِدي لغــــــــــير ســـــــميعِ بــــــــين آياتك الوِضـــــاء وبيني -- شجــــــنٌ جاثمٌ يغشِّي ربــــــــيعي يا عصا السحــــر في مواكب أيَّا -- رَ وأســــراره الخـــــوالد بــــوحي كيف يخضلُّ بالحــــياة جــــديبٌ -- كان طول الرُّبَى وعرض السفوحِ أيّ ســـــرٍّ أهـابَ بالطير عودي -- بعد نأْيٍ وبالأزاهــــر فُــــــــــوحي طاف يحبو الربى وجاز دروبي -- بنوالٍ نَزْرِ الوعـــــــــــــــودِ شحيحِ وعلى التيه لا يزال جـــــــناحي -- فــي اغــــــترابٍ ولا تزالُ ربوعي جهلَت مهجتي مـــــــداك فقالت -- أين يا مــــوعدَ الربيـــــــــع ربيعي؟! وفي قصيدته "أنا والربيع"، (مجلة أبولُّو، مايو 1934)، يذهب الشاعر "مرسي شاكر الطنطاوي" إلى استنكار أن يكون الربيع ربيعًا، حين يأتي على غير صورته، فيحمل لنا الكوارث والهموم بدلًا من يأتينا بالزهور والكروم: وراءك يا فصلَ الربيــــــــعِ قضيَّةٌ -- بها من أعاجيب القضاء فروعُ لقد كنت مستجلَى العــــيونِ قواعدًا -- لهنَّ قياسٌ فـــــــي الجمال بديعُ رياضٌ كمنظومِ المجـــــــرَّة مِلْؤها -- زهورٌ كمنثور النجـــوم تضوعُ ومستأنسٍ للعين فــــــي كلِّ مظهرٍ -- بدائـــــــع لا يُحصَى لهنَّ صنيعُ يفيضُ بـــــها القلبُ الشجيُّ مسرَّةً -- وترقأُ فيـــــــها بالشهودِ دمـــوعُ فما لك تبدو لي على غير صورةٍ -- لـــها كـــلَّ دورٍ بالســـلامِ طلوعُ؟ أنالَكَ ما نال الأنامَ؟ كـــــــوارثٌ -- تبدَّلَ فـــــــردٌ عنـــــدها وجموعُ! فما أنت فـي أفق البسيطة كوكبٌ -- ولا أنت في حـكمِ الفصولِ ربيعُ! وفي قصيدته "أين الربيع؟!" (مجلة الأقلام، يوليو 1964)، يقدم لنا الشاعر "عبد الكريم الطبال" تفسيرًا لهذه الروح الحزينة المتوجعة، حين يدير هذا الحوار بينه وبين محبوبته: قالت وفي الشفتين وردٌ أحمرُ -- أفديه لو سمحَــــت بقلبٍ يعشقُ فيمَ التجهُّمُ والربيـــعُ كما ترى -- زهرٌ يفوح وجـــــدولٌ يترقرقُ؟ وخمائل يختال فيـــــها سوسنٌ -- ثَمِلًا بما يسقيه شـــــــــادٍ يخفقُ وبلابلٌ في كل دوح جــــــوقةٌ -- والروض موسيقى وعطرٌ يعبق فيم الأسى وأنا ربـــــــيعٌ آخرٌ -- أزهى وأبقى من ربـــيعٍ يورِقُ؟ فأجبتها إمَّا أنا أعــــــمى وإمَّا -- أن باب الـــــــوهم عندي مغلَقُ فالزهـــــــــرُ عندكمُ فمٌ متبسِّمٌ -- ولدَيَّ جــــرحٌ في الحشا يتدفق والغصن يحكي غادةً في قدِّها -- ولديَّ رمحٌ فـــي الجماجم يفلق أين الربيع وأرضُـــنا في مأتمٍ -- والناس في وحـــلٍ وليلٍ يبرق؟ ويقدم لنا الشاعر "سلامة خاطر" تعليلًا آخرَ في قصيدة تحمل العنوان نفسه (مجلة الأديب، فبراير 1963)، سبقت الماضية ببضعة أشهر: قالوا الربيع أتى فأين صــــــداه؟ -- أفلا تحسُّ به وأنت تـــــــراهُ؟! بالأمس كنت مــــع الطيور ترنُّمًا -- ومع الزهـــور تضوُّعًا بشذاه ومع الرياض الحــــــاليات شقائقًا -- ومع الحقول الممرعات جناه ومع الشروق تبسُّمًا ومع الضحى -- شمسًا ترفُّ على رحيب مداهُ قلت الربيع هو الشباب فإن مضى -- عهد الشباب فلا ربيع سواهُ! وتذكِّرُني هذه الأبيات بقصيدة "الربيع الكابي" للشاعر السعودي الكبير "طاهر زمخشري"، والتي نشرها في ديوانه "أنفاس الربيع"، وقد صدَّرها بقوله مخاطبًا أحد أبنائه: "ابني فؤاد.. لقد استقبلت ربيعي بمولدك؛ ونثرت أيامَه بعد أن رويته بدمائي ودموعي": نثرتُ من الأيام مـــــــــا ليس يُجمَعُ -- وأبقيتُ في كفَّيَّ ما ليس ينفعُ شبابٌ تقضَّى بين ملهاةِ عــــــــابثٍ -- ويأسِ قنـــوطٍ قد براه التوجُّعُ وتلويع دهرٍ لا يحوك سوى الأسَى -- وينسجه حـــولي وللهول يدفع فهذا ربيعُ العمرِ لاكَ زهـــــــــورَه -- وألقى به مــن شدقه وهو بلقع أعزَّ عليه أن يـــــــــرى لي غبطةً -- تواسي فـؤادًا كاد بالهمِّ يُصدَعُ وها هي الشاعرة العراقية "لميعة عمارة" تكتب قصيدتها "عاد الربيع" وقد توفي شقيقها، فنثرت هذه الأزهار الشعرية على قبره: عــــاد الــــربيع وأنت لم تعُدِ -- يا حرقةً تقتاتُ من كبدي عاد الربيعُ فألفُ وا أسَــــفي -- ألَّا تحسُّ بـــــــه إلى الأبدِ لا بُــــــــدَّ أن ألقاكَ وا لهفي -- أنَّى وكيف أراك يا سندي لا شيءَ يا للموت من مرحٍ -- من أريحيته مـــــــن الجلَدِ لا شيءَ. لا بقــــــــيا تعلِّلُنا -- فكأن أمَّ (رجــــــاء) لم تلِدِ! الربيعُ الأحمر ولا مجال هنا لأتابع أصداء الربيع في القصة القصيرة، وبين يدَيَّ منها عشرات، ولكنني أعرض لمقالٍ بديع عمره خمس وستون سنة، كتبه الأستاذ "أحمد حسن الزيات" من وحي الحرب العالمية الثانية (فبراير 1940)، في ظروفٍ تشبه الظروف التي تمرُّ بها أمتنا هذه الأيام، وكأن صاحبه قد نفض منه اليدين بالأمسِ نفضًا، سمَّاه (الربيع الأحمر)، وقصد به ذلك الربيع الذي لا يخلقه الله، وإنما يخلقه الإنسان؛ سيخلقه من الذهب واللهب والدم، فيجعل من الجداول خنادق ومن الأغصان بنادق ومن الأدواح مدافع، وإذًا تصبح الأعشاشُ الناعمة المغرِّدةُ المعطارة مثابة بؤسٍ ومناحة شبابٍ ومستودعَ غاز! الربيع الأحمر كما يرى الأستاذ "الزيات" في فلسفته لمعنى الحرب، هو ذلك الربيع الخلّاق الذي يهزُّ الأرض هزًّا فتربو وتنبت. سيهزها هزَّ العافية ليسقط الذاوي وينتعش الهامد. والحرب تشذيبٌ لغرس الله، تقوى عليه الغصون ويزكو بعده الثمر، وآفةُ الحرب أنها تُودِي بالصالح للحياةِ وتُبقِي على الصالح للموت؛ ولكنها كالسيل الآتي، يجرف تياره الجَنِيَّ واليابس، ويغرق طغيانَه العامر والغامر. فإذا انقطعت روافدُه وجفَّت مجاريه، عادت الأرضُ به أخصبَ تربةً وأوفرَ غَلَّة. وإن تعجب فعجب تفسيره لمزايا الحرب وتفصيله لمنافعها، ويبدو في حديثه كأنما يوجه الكلام إلى الأمة العربية التي أكلت أكثر مما يجب، ونامت أكثر مما يجب، ولعبت أكثر مما يجب، وجاء دورها لتدفع ثمن هذا كله؛ خوفًا بعد أمن، وهوانًا بعد عِزٍّ، وفقرًا بعد غنى، وتشرُّدًا بعد استقرار؛ اللهم إذا اتحدت كلمتها، وتجمّع شتاتُها، واعتصم أبناؤها بحبل الله جميعًا ولم يتفرَّقوا. إنه يرحِّب بالحرب إذا لم يكن من خوضِ غِمارِها بُدّ! ويعلل ذلك بأنها تقطع الفضول وتنفِي الخبَث وتذيب الغش وتُذهِبُ الوهَن. "ولعلنا أحوَجُ الأمم إلى طهور الحرب، يرحض عنَّا رخاوة الذِّلَّة واستكانة الرق! فقد غبرت على وجوهنا قرونٌ من التبعية المستسلمة، لو مرَّت على الضواري لطمست في جباهها معارف الجرأة، وأماتت في نفوسها معاني الافتراس. كنا نعيش في ظلال المتبوع عيشَ الأمان والغفلة، لا نعرف الحدود إلا على الورق، ولا نشهد الحروب إلا في السينما، ولا ندرك معنى الدفاع عن النفس في وجود الحامي إلا كما تدركه الزوجة المرفَّهة في وجود زوجها، والولد المدلَّلُ في حضرة أبيه، حتى فشا فينا الجُبن، وغلب علينا التواكل، وقعد بنا الرضا فتركنا ثروتنا للغريب، ووكَّلنا حمايتنا للحليف، وفرَغْنا للتنافس في الهزْل، والتراشق بالتهَم، والتسابق إلى النيابة، أو الحكم من غير كفايةٍ ولا غاية". وما أجمل وما أحكم ما ختم به الأستاذ "الزيات" كلامه، حين قال: "إنَّ رَوضَنا يا ربيعُ هشيمٌ وخشَب! فأحيِهِ بالماء أو بالدم، وعالِجه بالغذاء أو بالسم، فقد استعصى يا ربيعُ علاجُه على النيل، ولا بدَّ أن يضحَّى بجيلٍ في سبيل جيل!". ولعل هذه الكلمات هي أولَى ما يجب أن نسمعه ونعقله ونستعدَّ له في هذه الأوقات العصيبة؛ فقد أزفت الآزفة، وجاء زمن (الربيع الأحمر)، ودق أعداؤنا طبولَ الحرب، واقتربت مواجهتنا الحتمية مع الصهاينة وأعوانهم من حثالة الغرب الصليبيِّ وأفَّاقيه، الذين أجمعُوا كيدَهم ليدمروا الإسلام ويُبيدوا أهلَه. (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). سعاد عبد القادر القصير (باحثة وكاتبة من لبنان)

الرّبيع.. وردُهم أحمر ووردنا مالح!

- "أتشو، أتشو، أتشوووو" تتفتّح الأزهار وتنفخ من قلب جمالها غُبار الطّلع القاتل، يقتل الرّاحة، يشوّه رونق العينين، ويخنق النّفس المُنقَذ من برودة الشّتاء.
    مرايتي يا مرايتي، مين أحلى طقس بالعالم؟ أنت أكيد حلو، بس في كتير عالم ما بتحبك، بقولو الخريف أحلى!
وهكذا ينتقم الرّبيع من كارهيه، وللأمانة أقول، أنا واحدة منهم، يأتي حاملًا بيده السّم في العسل، يتغزّلون بجماله، ويلعنون غباره، رياح خمسينيّة تجتاح صدور المصابين بالحساسيّة، وألوانه الزّاهية تحمل سكاكينها على أعناق الهاربين من جوّه. ورغم جوّه الذي يُطلق بيديه على أعناقنا، ننتظر لنكتشف سرّ الحبيب من أوراق الورود:
    بحبني ما بحبني
حتى تأتينا الوردة بالخبر اليقين، ولكن أيّ وردٍ نراه اليوم في أرضنا؟ ستتغيّر معايير الرّبيع هذه المرّة، فالأرض لم تُسق كما ينبغي، سيكون وردنا مالح، سقيناه بدموع الخذلان والانكسار، وورد غزّة أحمر مسقيٌّ بدماء الشّهداء، ربيعنا هذه السّنة حمل معه كلّ العواصف التي بقينا نهرب منها من أرض إلى أرض. لم يحمل معه جانب الحياة، الحريّة، العودة إلى الدّيار، ولكن ربيعهم كان الشّتاء الذي هجّرّهم كسنونو لا يعلم متى تكون العودة. وأيّ عودة تكون إن كان وحيدًا، مقتولًا، مسلوبًا عشّه من شجرته التي مدّ أغصانها غصنًا، غصنًا. تركناهم وحدهم لأنّنا لم نملك دواء الحساسيّة، لم نقو على النّفس، لم نقو على مواجهة الرّياح التي عصفت بهم، فماذا سنفعل حين يأتي دورنا؟ تتطاير أجسادهم المناضلة بين القذائف، وكأنّ العدوّ يراهن بأوراق حياتهم:
    الأرض لنا. الأرض ليست لنا.
ولكنّهم لن يحصّلوا مبتغاهم، الورقة الأخيرة من حديقة الشّهداء لن ترضي طمعهم بأرضنا، ونحن لن نساوم، فالأرض لنا، ولنا، ولنا، ولا مجال هنا للرّهان. البساط الأخضر، والفراشات والعصافير، إلى ما هنالك من عبارات حفظناها منذ الصّغر، فكلّ الأدباء، وكلّ الشّعراء، وكلّ النّصوص والكتب، تغزّلت بالرّبيع فصل الحياة والنّشاط. إلى أن كبرنا واكتشفنا، وفهمنا، أنّهم يتغزّلون بالمنظر السّاحر، وقد تركوا الحقيقة، حقيقة أنّنا في ربيع عمرنا أصبحنا عجائز. ربطوا الرّبيع بالقوّة والحياة، ربطوه بالمواطنة، بالعودة بعد الهجرة، ربطوه بالشّباب، بالحبّ، ولكن الواقع أنّ كلّ شيء مختلف، الشّباب قد ذبل، أنهكته رياح المصاعب، والحبّ قد ضاع مع كلّ رصاصة دمّرت اندفاعنا، والحياة أصبحت تحت الرّكام، والوطن بات غريبًا لم يعد يشبهنا ولا نشبهه. نعم يتغزّلون بروحانيّات الرّبيع، ولكن ينسون ضريبته العالية التي ندفعها في سبيل الاستمتاع بجمال الحياة، ولكن هذه المرّة الضريبة وضعت يدها على الرّبيع، صادرته منّا، وتركت لنا أرضًا مالحة تندب ضعفنا.
    مرايتي يا مرايتي مين أحلى طقس بالعالم؟ ما بقى في طقس حلو، الحربّ شوّهت كل شي!
سحر قلاوون (كاتبة من لبنان)

الربيع.. فرصة لتجديد الأمل

حين أحاول البحث في ذاكرتي عن اللحظات الأولى التي ربطتني بالكتابة، أرى تلك الطفلة التي كُنتُها وهي تجلس في الصف تستمع إلى شرح معلمة اللغة العربية عن موضوع التعبير الذي تطلب من التلاميذ كتابته. كان حينها فصل الربيع قد بدأ، فتخبرنا المعلمة بأن الموضوع المطلوب منا الكتابة عنه هو "فصل الربيع"، فكنت حينها أمسك قلمي وأبدأ بكتابة كل الجمل التي قد تخطر على بالي. "حل فصل الربيع، لم تعد السماء ملبّدة بالغيوم، بل أصبحت الشمس ساطعة، الأزهار تزيّن الأرض، العصافير تزقزق والفراشات ترفرف، الحشرات والحيوانات خرجت من مخابئها، والأطفال خرجوا من منازلهم ليلعبوا سويّا ويستمتعوا بهذا الطقس الجميل"، هذه عيّنة ممّا كنت أكتبه، وعلى الأغلب كان معظم التلاميذ يكتبون الكلام نفسه، وفي كلّ سنة حين يأتينا الربيع كنّا نكتب المواضيع نفسها من دون أن نملّ نحن من كتابتها ومن دون أن تملّ معلّمتنا من قراءتها. كبرت، رحل الربيع ومن ثم عاد لمدّة أربعةٍ وعشرين عامًا، وأنا الآن لم أعد تلك الطفلة التي تكتب موضوعها الإنشائي في المدرسة، لكنني مع ذلك لا زلت أكتب، ليس بطلب من المعلّمة أو من أيّ أحد آخر، بل تلبية لشغفي وحبّي الكبير للكتابة ولشعوري بانتمائي إلى عالمها دون سواه. أجدني أكتب عن الربيع وأزهاره، الصيف وحرّه، الشتاء وبرده القارس، وعن الخريف وأوراقه المتساقطة. الفصول كلّها تحتلّ أوراقي من دون أن تملّ منّي، فالكتابة حكاية لا تنتهي مهما توالت الفصول بحلوها ومرّها. ولا أستطيع أن أنكر أنّ فصل الربيع من الفصول التي يفرحني قدومها، فهذا الفصل يمنحني الأمل ويشعرني بأنّ الأشياء الجميلة آتية مهما طال الشتاء. مع تفتّح الأزهار، تتفتّح الآمال، ومع إشراقة الشمس تشرق الطمأنينة وتمدّ قلوبنا بالراحة، ومع خروج الأطفال للّعب تخرج أحلامنا لتقف أمامنا طالبة منّا عدم الاستسلام.. فغدا ستتحقّق الأحلام، وسيأتي الفصل الذي ظننّا أنّه من المستحيل قدومه. غدا سنفرح بتحقيق أمانينا كما يفرح الصغار حين يركضون خلف بعضهم البعض بين الأعشاب، وسنضحك كما لم نضحك من قبل وسنستنشق عبير الأزهار لتُخلّد في ذاكرتنا أجمل اللحظات التي عشناها. فلنتذكّر أن العواصف مهما طال بقاؤها، لا بد لها أن تزول لتسمح للورود بأن تزيّن الأرض، وأنّ الرياح مهما عصفت بنا ستأتي تلك اللحظة التي سنجد فيها أنّ أقدامنا قد باتت راسخة في هذه الأرض، لا تميل حين تشعر بأنّ الرياح والعواصف آتية. قدوم الربيع هو فرصة لتجديد الأمل بأنّ الصعاب ستختفي من أمامنا غدا أو بعد غد، فلنغمض أعيننا، ولنَعِد أنفسنا بأن كل شيء سيكون أفضل وأنّ أزهار الربيع ستمحو آلامنا. هند سليمان أبو عزّ الدين (باحثة وكاتبة من لبنان)

ماذا قالت الوردة للفراشة؟

نهضت الفراشة من نومها، فاستقبلتها بسمات الصّباح المثقلة بالحنين، وأرسلت إليها عطر صفائها، فشعرت بنسمة دافئة تداعب خدّها، وتدعوها إلى نزهة صغيرة في الحقل القريب، حيث تبدو الطّبيعة ضاحكة ترتدي أبهى حللها احتفالًا بقدوم فصل الرّبيع، فخاطبت نفسها قائلة: "اشتقت كثيرًا إلى تلك الأزهار العابقة برحيق الفرح والحياة، اشتقت إلى أحاديثها العذبة التي تؤنس وحدتي، وتُزيل عنّي الهمّ والغربة"، فقاومت إحساسها بالتّعب، وبدأت تفكّر في قضاء يوم ممتع يَعِدها بشتّى أنواع السّرور، ويقدّم لها رحلة رائعة بين عبير الأقحوان والياسمين، وضجيج القرنفل والرّياحين، وعبق الزّنبق والبنفسج، فراح خيالها يرسم لها لوحة رائعة من الورود المختلفة الأشكال والألوان، ويُزيّنها بريشته المليئة بالوعود الجميلة. وبينما هي غارقة في أفكارها، نظرت من بعيد، فلمحت وردة صغيرة وهزيلة تشدو فرحة تحت أشعة الشّمس المُحمّلة بالأمل، وتتباهى بردائها الأحمر الجميل، فذهبت إليها مسرعة، واختبأت خلف شجرة قريبة، وأخذت تراقبها بصمت متسائلة عن سبب سعادتها، فاستولت عليها الدّهشة، واستغربت كثيرًا حين رأت الورود الملوّنة ترنو إليها، وتستمع إلى صوتها العذب، وتمدح كرمها وعطاءها، فتساءلت قائلة: "أيعقل أن تحظى هذه الوردة بكلّ تلك الحفاوة رغم أنّها أقلّ من غيرها جمالًا وحسنًا؟!". وفي تلك الأثناء، لمحتها الوردة فرمقتها بنظرة مفعمة بالحنان، وأحسّت بما يدور في رأسها من أفكار وأسئلة، فطلبت منها الاقتراب قائلة: "تعالي أيّتها الفراشة الجميلة لأحدّثك عن فصل الرّبيع"، ودعتها إلى الاستماع إليها، لتمسح بكلماتها تساؤلاتها، وتعطيها درسًا في تعزيز الثّقة بالنّفس، لتُقوّي عزيمتها، وتحثّها على ضرورة التّحلّي بالقيم الإنسانيّة، وبحبّ الحياة، وبالمشاعر التي تُشجّعها على العطاء والأمل، فخاطبتها قائلة: "تعلّمت من الرّبيع، أن أقبِل على الحياة بفرح وسرور، لأنّني رأيت الطّبيعة تمسح عن جبينها عواصف الشّتاء وبرده وثلوجه، فتزهر براعمها على الأغصان لتُبشّر بقدوم الثّمار النّاضجة، وينطلق أريج زهورها في البساتين والحقول ليُرحّب بفصل النّشاط والتّجدّد، فتستعدّ الحدائق لاستقبال مواسم الخير والعطاء، ويبدأ الفلّاح بنقب الأرض وحرثها ليزرعها بذورًا، ويرويها من كدّه وتعبه، فتهبه من كرم غلالها الفواكه اللّذيذة والمحاصيل الزّراعيّة الطّازجة. وقد استفدت كثيرًا من دروس الرّبيع، فأيقنت أنّ لكلّ زهرة عبيرًا يضفي عليها سحرًا وسناء، وينسج رداء جمالها ورونقها، ويعطيها دورًا مميّزًا يتناغم مع ورود الحقل، فيزيدها روعة وبهاء، وخصوصًا حين تتحلّى بالقيم النّبيلة والأخلاق السّامية، فتنال إعجاب الآخرين وتبهرهم بصفاتها الحميدة، فهل عرفت الآن، يا فراشتي الجميلة، لماذا يحبّني الجميع؟ فأنا، يا صغيرتي، ابنة هذه الحقول، وقد تعلّمت من الرّبيع أن أرتدي ثوب المحبّة والبسمة والتّسامح، وأمدّ يد المساعدة دون مقابل. فهذا الفصل، يا عزيزتي الفراشة، هو فصل انطلاق العطر مع نسمات الهواء ليُنعش أفئدة النّاس، ويبعث فيها التّفاؤل، فتزهر الأحلام في نفوس البشر، وتلمع في عيونهم رغبة تدفعهم إلى تجديد النّشاط، والمواظبة على العمل. ففي الرّبيع يغدو الخير نهرًا يروي ينابيع الأمل والفرح والجمال، ويعلّمنا الصّبر والانتظار حين نراقب الطّبيعة وهي تستعيد زينتها بعد رحيل الشّتاء. وفي الرّبيع تعود الطّيور لتزقزق متنقّلة بين الأشجار المثمرة، فينشر صوتها البهجة والسّعادة في كلّ مكان، ويبعث في النّفوس الهدوء والرّاحة، وخصوصًا حين تبني أعشاشها من جديد لتعلّمنا الجدّ والاجتهاد، وتدفعنا إلى التّغلّب على مشاعر الخمول والكسل. وبين طنين النّحل، وأنغام الجداول والسّواقي، وحفيف أوراق الشّجر، يهبّ نسيمٌ عليل يملأ الجوّ انتعاشًا، فينبت العشب الأخضر ليُشارك الطّبيعة فرحتها وإقبالها على الحياة، وتزدحم الوديان بحكايات الزّهر والثّمر، وتتغلّب المروج على كآبة الشّتاء لتعلّمنا القدرة على اجتياز المصاعب والأزمات. فالرّبيع، يا عزيزتي الفراشة، هو فصل احتفال الأماني بصوت الغدير، والأغصان بالعصافير، وهو فصل تتمتّع فيه الورود بعبير المحبّة والفرح والحبور، وتلبس فيه الطبيعة ثياب المرح والسّرور، فتبتهج الحقول والمراعي، وتتسابق فيها ضحكات الأطفال". وصمتت الوردة حين أحسّت أنّ الحديث عن الرّبيع يطول، فابتسمت الفراشة وطارت. عدوية موفق الدبس (باحثة وكاتبة سورية - لبنان)

فصل البوح بعد صمت الشتاء

ها هي الأرض ترتدي ثوبها الأخضر المُطرَّز بالزهور الملوّنة، وأزهار الفواكه تعانق أغصان الأشجار، والعصافير تدندن على ألحان النسيم المعتدل... نعم، هكذا كانت مقدّمتنا في المرحلة الابتدائية، تلك التي رافقتنا في المدرسة، حين كان يصرخ أستاذ اللغة العربية مبتسمًا في وجوهنا، مطلقًا صفّارة التحدّي: "هيّا! اكتبوا عن فصلكم المفضّل!"، فيبدأ الجميع بكتابة هذه المقدّمة التي كانت المفتاح السحري لكل موضوع تعبير. وحين كبرنا، عدّلنا تلك المقدّمة في المرحلة الثانوية، وأضاف بعضنا "حبّة بنادول" تساعدنا على وداع فصل العشّاق وأنغام المطر، وكأنه تحوّل إلى ضمّادة معطّرة، تحمل في طيّاتها عبقًا رائعًا. أمّا الآن، فقد أصبح تعبيري أكثر دقّة، لا يعتمد على حاسّة السمع فقط، بل أصبحتُ أستحضر كلّ حواسي حين أدوّن وصف ذاك الفصل الجميل. نعم، كلّها تعمل... فقبل مدّة، حدّثتُ بالكتابة صديقًا لي عن جمال زهر الليمون القادم، وإذ به يجيب: "لقد شممتُ الرائحة فعلاً!" وكأنّها أتت فعلاً! إنه الربيع، الفصل الذي يُفعّل فينا كلّ الحواس... عندما نكبر، نسعى أكثر فأكثر نحو الربيع، رغم أنّ موعده محدّد ويأتي كلّ عام. لكنّه لم يسلم من عبث الواقع. لم يُهمَل من الأدباء، إذ اتّخذه "شكسبير" رمزًا للحب، وقال فيه "البحتري": أتاك الربيع الطلقُ يختالُ ضاحكًا -- من الحُسنِ حتى كاد أن يتكلّما ولم يكتفِ هو فقط، بل تغنّى به "إيليا أبو ماضي" في الكثير من الأبيات، وأخذه "محمود درويش" إلى معانٍ أعمق وأبعد. آه، الربيع... وما أدراكم ما الربيع! فصل الشعراء والفن، فصل الإبداع والرسم، فصل الكشف والبوح، فصل خلع ثوب الاختباء والسكون، ورفع صوت الحق. ورغم أنّه يأتي كلّ عام، إلا أنّه كان بخيلًا في وطني. لا أعلم ما السبب، ربما كان يخشى شيئًا ما، أو دبّ الذُّعر في ثوبه الأخضر، فقرّر ألّا يأتي. لكنّ أولئك الذين تعبَت قلوبهم من قسوة الشتاء قرّروا أن يتّصلوا بذلك الفصل... كان الشتاء ثقيلًا، لا يشبه برده المعتاد، بل كان قاسيًا حتى على الأرواح، يزأر بصمته، ويلفّ البلاد ببطانيّة من الصقيع لا تدفئ، بل تخنق. كان ثوبه الأبيض ناصعًا من الخارج، لكنّه في الداخل محشوّ بالخذلان والخوف. في كل صباح رمادي، كنا نستيقظ على بردٍ لا يلسع الجسد فقط، بل يلسع الأمل. تساقطت أوراق الحياة، وانطفأت شموع الأمل، وصار الشتاء رمزًا للخنوع، لكل ما هو ثقيل في الروح. تحوّلت البيوت إلى كهوف صامتة، والقلوب إلى مدافئ مطفأة، لا حطب فيها سوى الذكريات الثقيلة. وكان السؤال دائمًا: متى ينتهي هذا الشتاء؟ متى يأتي الربيع؟ ماذا يعني الربيع أصلا؟! فبدأت الهتافات، بصوت مرتجف بالكاد يُسمع، ثم تصاعد صداه، وارتفعت الأصوات... لم يعد ثوب الشتاء نقيًا، لقد تلطّخ بدماء أولئك الذين نادوا بالربيع. ازداد الإصرار، ورُفعت لافتات خضراء مطرّزة برائحة زهر الليمون، أسموها: "حرية خلع ثوب الشتاء". بدأ العدّ، ومضى الوقت، وكبرت تضحيات الربيع... لا سند، لا أمل، أين البقية؟ وازداد الشتاء قسوة... حتى مات كثيرون بردًا. ماذا يحصل؟! لكلّ شيءٍ ضريبةٌ ستُدفَع، من أحبّ الشتاء سيدفع الزّكام ثمنًا، ومن أحبّ الرّبيع سيدفع عطر الليمون ثمنًا، لا شيء في هذه الحياة بالمجّان، هذا ما علّمتنا إيّاه الفصول، لكنّنا سنُحبّ الرّبيع، فالوردة التي تُدمينا أشواكها نُهدِيها لمن نُحبّ. وإذ بالربيع يأتي أخيرًا، ولم يعُد مقتصرًا على حاسّة السمع فقط، بل باتت كلّ الحواس تشهد قدومه: رائحة الحريّة قد أتت، نشاهد الثوب الأخضر المطرّز بزهور حمراء، وبعض الحداد على من كانوا فداءً للربيع. آه، ها هو السلام يسكننا... ها هي حاسّة السمع تعمل من جديد، وأصوات الحق تعلو... نحن نتذوّق الحلوى بعد سنين من المرارة، ونلمس الحرير بأيدينا. ما هذا الربيع الجميل؟! لم أكن أعلم أن جماله بهذا القدر. لم أكن أعلم أنّني سأقع في حبّه كلّما كبرت، وكلّما فهمتُ أكثر معنى الربيع... لكن، تُرى... هل يستمر؟ ليت السنة كلّها ربيع... ليت الربيع يسكن قلوبنا وأرواحنا. سمر توفيق الخطيب (كاتبة وباحثة فلسطينية - لبنان)

فصل الربيع... رسالة أمل وتجدُّد

جميلٌ هو فصل الرّبيع، هذا الفصل الذي ينقلنا بمناخه المعتدل من موسم الشّتاء حيث البرد والعواصف إلى موسم الصيف حيث ترتفع درجات الحرارة. إنه الفصل الذي يُقبل علينا برونقه وتألّقه، حيث تُورق الأشجار التي تعانق السماء فتنبض بالحياة وتكون أكثر انتعاشًا؛ وتتفتّح الورود بألوانها الزّاهية من أحمر وأبيض وخمري ووردي وأصفر وبرتقالي وبنفسجي... وبأشكال متنوعة. فتنتشر هذه الألوان البديعة في مختلف الأماكن، لاسيما في الجبال والوديان والسهول التي يكتسحها الخَضار، فترتدي الأرض ثوبها الأخضر المُزيّن والمزخرف، فتتكشّف لنا روعة المُروج الخضراء على مدّ العين والنّظر، ما يبعث في النّفس الرّاحة والسّكينة؛ وتطلّ علينا الأزهار مرحبة بزيارتنا لضفاف الأنهار، ومرورنا على أرصفة الطرقات، وفي الحدائق والسّاحات... إنه الفصل الذي يبعث البهجة والسرور، حيث يمكن للمرء أن يتنزّه ويستمتع بسحر الطبيعة الخلّابة ويشتمّ أغلى العطور؛ ما يساعد على تحسين المزاج، فيشعر الإنسان بالانتعاش. فكم هو رائع عندما تفوح الرّوائح العطرة من الأزهار التي تزين حياتنا وتضفي عليها ذلك الجمال. إنه فصل السّحر دون منازع حيث يتجلّى إبداع الخالق، عزّ وجلّ، فتتجسد لنا جنة الدّنيا. وهو فصل الإشراق، فما أن يهلّ علينا حتى يعلن تجدد الطبيعة، فنجد أن الأرض توزّع غلّاتها وتتزين بالعشب الأخضر، وتتبدل الأغصان والأوراق اليابسة بالبراعم النّاضرة الخضراء، فنجد أنفسنا أمام لوحة فنّية خارقة نسجتها الطبيعة ويقف الإنسان عاجزًا عن صنع ما يضاهيها مهما حاول لأن قدرة الله، سبحانه وتعالى، فوق كل القدرات، لكأنها تشكل جنّة زاهرة وضاحكة؛ حيث تجتمع فيها مختلف أنواع الغاردينيا والفل والياسمين والأركيد والأقحوان والكاميليا والزّنبق وشقائق النّعمان والبنفسج والقرنفل وغيرها الكثير. إنه فصلٌ ينتشر فيه العَبق العذب في الجو ما يضفي العبير الزّاكي على عالمنا الكئيب؛ فتزهر الرّوح كما تزهر تلك الورود، وتتراقص الأغصان مع نسمات الصباح العليلة، وتصدح الطيور بأنغام الحياة، وتغرّد العصافير بأصواتها العذبة احتفالًا بقدوم هذا الضيف المُحبّب والمُرحّب به، وتصبح القلوب أكثر نقاءً، لكأنه فصل المعجزات... إنه أجمل الفصول؛ لكأنك تجد كل شيء حولك يزهو بالفرح والسّعادة، فالسماء تبدو زرقاء صافية، وقد تتزين ببعض السّحب البيضاء التي ترسل رذاذها النّاعم ليزيد الجو بهجة وألقًا، وتجد النّسيم العليل الذي يتغلغل في الصّدور، فينعشها ويزيل عنها عبق الحزن ويبلسم الجروح، ويجدد في أرواحنا ذلك البريق الذي بهت وخفت نتيجة الهموم. ما أروعه من فصل حيث تطل علينا الشمس بأشعتها الزّاهية، ويا لهذا الحُسن! ويا لجمال هذه الفراشات التي ترفرف بأجنحتها فتنثر البهجة في كل مكان، وتُقبل رحيق الأزهار وتحتفل بهذا البهاء... وما أغرب هذا النّحل الذي يسافر ويقطع المسافات الطويلة بحثًا عن حبوب اللّقاح! فيتنقل في الحقول والبساتين بجد واجتهاد، فيخزن لنا العسل، هذا السائل الذّهبي الحلو المذاق، في خليته المتقنة البناء؛ ففي عمله الدّؤوب هذا إنما يعلّمنا الصّبر والثّبات، وكيف أن العمل بدقة وصمت يثمر حلاوة تملأ الكون... فالربيع رسالة تفاؤل، يحفّزنا على السعي والمثابرة، إذ يعلّمنا أن بعد الشّتاء وبرده وصقيعه لا بد أن يأتي الصّيف بدفئه وضيائه، وأنه بعد كل ليل وظلام لا بد أن يطلع النّهار... إنها دورة الحياة، حيث التّجدد الدّائم، فلا شيء يبقى على حاله أبدًا... فنحن في كل سنة على موعد مع هذا الفصل البديع الذي نحتاج إليه ليسندنا بعد طول غياب، فنجدد الأمل ونستعيد الأحلام، ونرسم مستقبلًا زاهرًا ملؤه البسمة، وفيه الكثير من عبق الورود المتفتحة والغزيرة الألوان. يقول الشاعر "البحتري" (820 - 897م) مستبشرًا وفرحًا بقدوم الرّبيع: أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً -- منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا وَقَد نَبّهَ النّوْرُوزُ في غَلَسِ الدّجَى -- أوائِلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمْسِ نُوَّمَا يُفَتّقُهَا بَرْدُ النّدَى، فكَأنّهُ -- يَنِثُّ حَديثاً كانَ قَبلُ مُكَتَّمَا وَمِنْ شَجَرٍ رَدّ الرّبيعُ لِبَاسَهُ -- عَلَيْهِ، كَمَا نَشَّرْتَ وَشْياً مُنَمْنَما أحَلَّ، فأبْدَى لِلْعُيونِ بَشَاشَةً -- وَكَانَ قَذًى لِلْعَينِ، إذْ كانَ مُحْرِما

هكذا حدّثتني "شقائق النعمان" عن الربيع والشباب

في مشهدٍ تتوشّح فيه الأرض بثوبٍ أخضر يزدان بالأزهار والأوراق النضرة، يُطلّ الربيع كأجمل فصول الطبيعة، حاملًا معه إشراقة الحياة وبداية دورةٍ جديدة للنماء والعطاء. هو فصل التجدد والانبعاث، حيث تتفتح الأزهار، وتخصب الأرض، وتثمر الأشجار، رغم ما قد يعترضه من عواصف وأمطار مؤقتة لا تلبث أن تزول لتستعيد الطبيعة توازنها. وفي موازاة هذا المشهد، يمرّ الإنسان بربيعه الخاص: مرحلة الشباب، حيث تتجلّى ذروة العطاء الإنساني في صورته الأكثر حيوية وقدرة على الإنتاج والإبداع. إنها مرحلة التخطيط وبناء الأحلام، والعطاء العلمي والاجتماعي والاقتصادي، رغم ما يكتنفها من صعوبات تصقل الشخصية وتُعدّها للنضج. وبين الربيع والشباب قاسمٌ مشترك: كلاهما لحظات ذهبية عابرة، لا تتكرر، تمامًا كما لا يأتي الربيع مرتين في عامٍ واحد، ولا يعود الشباب مرتين في العمر... فاغتنمه قبل أن يصير ذكرى أكثر من واجب. كلما اتجهنا شمالًا على كوكب الأرض، كان الشتاء أشد قسوة، باردًا، عاصفًا، فيه من الريح والأمطار الغزيرة والثلوج ما يجعل الإنسان ينتظر الربيع بفارغ الصبر. ولهذا نجد الكثير من الأدباء تحدّثوا عنه في رواياتهم وشعرهم. في الأدب الإنجليزي مثلًا، يبرز "شكسبير" في سوناتته الـ 98 "الغياب الموسمي"، حيث يحوِّل غيابُ الحبيب الربيعَ إلى شتاء عاطفي، رغم تفتح الأزهار وتغريد الطيور، وكأنّ الزهور الحمراء والبنفسجية، كتلك التي تزهو في الحقول، تذبل في عينيه لفرط اشتياقه. أما في الثقافة العربية، فيغني "فريد الأطرش": "آه يا الربيع رجع من تاني، والبدر هلت أنواره.. وفين حبيبي اللي رماني من جنة الحب لناره؟"، ليجعل من الربيع مرآةً لحنينٍ مؤلم، حيث تصبح الأزهار شهودًا على فراقٍ لا يُجبر. ولكن رغم هذه التناقضات بين فرح الطبيعة وحزن الإنسان، يبقى الربيعُ فصلًا يذكّرنا بأننا جزءٌ من دورة الجمال هذه. فكما تتنوع ألوان الزهور، من حمراء مثل "شقائق النعمان" إلى بنفسجية وبيضاء، تتنوع تجارب الشباب بين فرحٍ وحزن، ونجاحٍ وتعلُّم، لترسم لوحةً حيّةً تشبه حقول الربيع المزهرة. حمراء أوراقها كقطرة دم، رقيقة كجناح النّحلة، وفي وسطها بذور ورحيق أسود داكن، ساقُها الخضراء طويلة هشّة، تحرّكها الرياح مع السنابل. تلك هي "شقائق النعمان"، تنمو في الحقول عند قدوم الربيع.. وحولها كم من زهرة برّية أخرى تتميّز عن كلّ النباتات المزهرة: البنفسجية والزرقاء الفاتحة، البيضاء والصفراء، الوردية والبرتقالية. في الحدائق والمزارع، في السهول والهضاب، بالقرب من الجداول والوديان، الأشجار كلّها أزهرت وأوراقها قد أينعت، والاخضرار ثوب جديد بعد معطف الشتاء الأبيض الممزّق على سفوح الجبال. مع عودة الأنهار للجريان بعد عواصف باردة وجمود، يعود الربيع حاملًا معه زرقة السماء، وقرص الشمس بأشعّته الدافئة، وفراشة تطير هنا وهناك، وحشرة صغيرة طائرة في كلّ مكان، لا نهتم باسمها لأنّها لا تحمل الجمال بمعاييرنا، لكنّ الربيع واثقٌ فيها؛ تصنع الجمال والسعادة. وتطير خنفساء الدعسوقة على مهل، وتنزل على يد الإنسان، حمراء ومنقّطة بالأسود، تكاد تقول: أنت جزء من الربيع أيّها الإنسان وأنت لا تدري. أنت أيضًا ملك الطبيعة، بإمكانك أن تصنع الربيع مثل كلّ الكائنات. أنت لا تختلف عن إكليل الجبل البري، والأقحوان البري، والسوسن البري، وزهرة النرجس البري... أنت أيضًا لك ربيعٌ تزهر فيه وتكتب فيه أجمل فصول حياتك. حين تنقضي المراهقة بأمطارها الغزيرة، ورياحها الهوجاء، وبرودتها وثلوجها، وظلمتها وسواد ليلها، يُطلّ البلوغ. يا شباب، مرحبًا بك! أيّ فصلٍ أنت؟ ألستَ الربيع في جمالك، في قوّتك، في حيويّتك وحركتك، في سعادتك وحماسك؟ كلّك أمل، كلّك رغبة في النجاح، تفيض بهجةً وسرورًا، تغمرك السعادة بكلّ تجلّيات غبطتها. أحاسيس جياشة، رقّةٌ وعذوبة، أفكارٌ متجدّدة، ونبضٌ يتوق لتغيير العالم والمساهمة في رسم خارطةٍ جديدة للزمان. حين يكون الشباب فصلًا، فلا يكون إلا ربيعًا؛ لا مكان فيه للحزن، والدنيا تزهو بألوانها الزاهية. الخريف والخَرَف بعيدان، والصيف على الأبواب، ككهلٍ على شاطئ البحر، مستمتع بلذّة الانتظار. تتقدّم نحوه بثقة، وأنت تدرك أنك ستزرع له عنبًا يحصد به ثمرة التعب. أما الشتاء، فقد ولّى خلفك... وانتهى. لا فرق بينك وبين العصافير التي تنشد لتغدو أنشودة الربيع. أنت كالحسّون والكناري، لباسكما زاهٍ، وصوتكما غنائي، يقتحمكما الحب والفرح دفعةً واحدة، ذاك هو قانون الطبيعة حين يحين أوان التكاثر. تتزاوج البلابل، والحمام البري، وكلّ الطيور المغرّدة، وأنت، أيها الشاب، تهيم عشقًا، تتزوج، وتبني البيت. أليس العش يُنسج في الربيع، أيها الطائر الحرّ؟ أنت تنتمي إلى الربيع، والربيع يسكن فيك. أنت ملك الطبيعة، والربيع يجري في عروق كلّ الكائنات.  

الربيع والحب

"مصطفى علي عبد الرحمن" (1915 – 1992) شاعر مصري اشتهر بأشعاره الوطنية والرومانسية التي لحّنها وغنّاها كبار الملحنين والمُغنّين العرب، فمن المُلحّنين: رياض السنباطي، محمد عبد الوهاب، محمد القصبجى.. ومن المُغنين: عبد الحليم حافظ (أغنية: ربيع شاعر)، "ميادة الحناوي" (أغنية: أشواق)، وردة الجزائرية وشادية ونجاة.. ومن أشهر قصائده قصيدة "أمّة الأمجاد" غنّتها "فايزة أحد".. أصدر الشاعر كُتبا في الدراسات منها "الربيع في الأدب والفن والحياة"، ودواوين شعرية منها: المصطفيات صدر عام 1933، لحن الخلود صدر عام 1933، ليالي الشاطئ صدر عام 1936، أغاني الحياة صدر عام 1939، الربيع صدر عام 1955، أغنيات من القلب صدر عام 1987.. مصطفى عبد الرحمن (شاعر مصري) الربيع هو النور، والربيع هو الحب، والربيع هو الحياة ...ما أشدّ أن نظلم الربيع حين لا نراه غير وردة حمراء، أو قبة زرقاء، أو ثمرة ناضجة حلوة الرّواء.. إن لغة الزهور هي نفسها لغة الحب، عطر الشوق، وعبير الحنين، وشذى اللهفة، ولون الدموع والخدود. قالوا: إن الوردة الحمراء تقول لك "بدأت أحبك"، وإن زهرة القرنفل تهمس "لماذا تحبّني؟"، وإن الوردة الصفراء تناجي بقولها "ثق بحبي"، بينما تتوسل زهرة البنسيه "أفكر فيك دائما"، أما الوردة البيضاء فتتأسف في صمت معناه "أمَا زلت لا تعبأ يحبي؟". يقول "لامرتين" شاعر فرنسا الكبير: "الحب وردة ذات شوك، وكلما كانت الوردة جميلة كثرت من حولها الأشواك". والمثل الهندي يقول: "ولد الحب في إحدى ليالي الربيع المُقمرة". أما "العقاد" فيقول: "يقترب الربيع فتسرى الحركة فى عالم الأحياء كأنهم يتأهّبون ليوم عرس أو يتجمّلون لعيد مهرجان طائر يرفرف ولا يستقر، وإذا استقر أخذ في التغريد، وشجر يخرج جواهره من خزنتها المهجورة كما تتزيّن الحسناء، وأنغام ترقص، ومروج تتألق، وأحلام تتجاوب بأشتات من الأنغام والأصداء.. أشتات تتفرّق ما شاءت أن تتفرق، ثم تجتمع في كلمة واحدة تقال بكل لغة، وتفهم بكل وجدان هي كلمة الحب". الناس كلهم يحيون مع الربيع من جديد، فتجري في عروقهم دماء الحياة، وتسري فيهم نبضات الغرام، وتشتعل العواطف، وترتّل القلوب أحلى أناشيد الهوى والحنين. فالربيع موسم التلاقي في ظل الطيب والورد، واللقاء مع الحبيب بلا وعد.. يقول "عمر أبو ريشة": هنا في موسم الورد -- تلاقينا بلا وعد وسرنا في جلال الصمت -- فوق مناكب الخلد وفي ألحاظنا جوع -- على الحرمان يستجدي وأهوى جيدك الريان -- مُتكئًا على زندي فكُنّا غفوةً خرساء -- بين الخد والخد والمرأة بما فيها من سحر، وإشراق، وفتنة وجمال، تمثل بأنوثتها روح الربيع التي تختال في الدنيا فتهب الحياة، ويخفق القلب وتنتعش الروح، وترتّل أحلى أغاني الهوى والحنين. يقول "الشابي"، شاعر تونس الخضراء، في خالدته "صلوات في هيكل الحب": أَنتِ روحُ الرَّبيعِ تختالُ فـ -- ي الدُّنيا فتهتزُّ رائعاتُ الورودِ وتهبُّ الحَيَاة سَكرى من العِط -- رِ ويدْوي الوُجُودُ بالتَّغريدِ كلَّما أَبْصَرَتْكِ عينايَ تمشينَ -- بخطوٍ موقَّعٍ كالنَّشيدِ خَفَقَ القلبَ للحياة ورفَّ الزَّهـ -- رُ في حقلِ عمريَ المجرودِ وانتشتْ روحيَ الكئيبَةُ بالحبِّ -- وغنَّتْ كالبلبلِ الغِرِّيدِ إن الربيع يعود فتعود الحياة في كل شيء ويسيطر الحب على كل الخلائق من حي يحيا ولا يتحرك وذلك النبات. ومن حي يحيا ويتحرك وذاك الحيوان، ومن حي يحيا ويتحرك وله فهم وله لسان وذلك هو الإنسان. يقول "أمين نخلة" وقد عاد الربيع: عاد الربيع وحرّك الغُصنَا -- أين الربيع وأين ما كُنّا؟ عودي فقد عاد الربيع وقد -- عاد الحمام وقد تعاتبنا عودي فقد عاد الربيع لنا -- همس الربيع وغمزه عنّا أنفاسه منّا ورقته -- منا، وجرّ ذيوله منّا یا غصن یا مُضنّى بلا سبب -- مِل حولنا يا غصن یا مُضنّى یا ورد یا ابن الرقّة اختبأتْ -- في ظلك العشاقُ، خبّئنا وفي ألفاظ تسيل عذوبة، ومعانٍ تشفّ عن رقّة.. رقّة كأنها صفاء في صفاء، أو كأنك تتأمّل فيها إلى زرقة السماء وهي بعد تحمل بساطتها عمق التاريخ ووهج الحريق. يقول "صالح جودت": يا حلوة العشرين لا تفزعي -- من همسة الخمسين في مسمعي أنا شبابٌ سرمديُّ المدى -- أنا ربيع دائم المطلع لا يكبر الشاعر يا طفلتي -- فعمره في حسّه الطيّع! قلبي على العشرين قيّدتُه -- فعمر قلبي ليس يجري معي ويمزج "العقاد" بين الربيع في مشاعره، والحبيب في أحاسيسه، فإذا نُضرَته سبب النّضرة الطبيعة، وإذا غضبه غضبها في الشتاء، والطير لا يغني إلا بصوته وخرير الجدول همسات ثغره: فيك من كل ربيع طلعةٌ -- تُنبِت النّضرة عاما بعد عام والشتاء الجهم لا يعدوك من -- عهده العاصف برق وغمام ما تَغنَّى الطير إلا بعض ما -- أنت راوِيَه ولا نوح الحمام وإذا الجدول ناغى نفسه -- فهي أصداؤك من غير كلام مرحبا بك يا ربيع الحب -- يا ربيع النور والحياة والسلام ربيع شاعر قصيدةٌ نشرها الشاعر "مصطفى عبد الرحمن" بمجلّة "الرسالة" في 10 ديسمبر 1945. يا ربيعي ما لأزهارك تذوي -- قبلما تشهدُ أنوار الحياة وأرى أوراقك الخضراء تهوى -- ثم لا تملك نفسي غير آه أنا روَّيتُك من كاسات خمري ووهبتُ الزهرَ أنفاسي وعِطري يا لزهري.. ما الذي صوَّح زهري وَرَمَاهُ قاسيًا حين رماه وأنا ما زلتُ في فجر الحياة ها هي الأطيار في الروض تغني -- غير طير ضلَّ عن سرب الطيور يعرف الدمع الذي قرَّح جفني -- وأسى نفسي فيأسي للمصير أنا أحيا في خريف من شقاءِ أسرعت أوراقُه نحو الفناءِ ولقد هبَّتْ أعاصيرُ الشتاءِ ما بقائي أيها القلبُ الكسير في حياةٍ كل ما فيها مَرير جفّت الكأس فما في الكأس ريٌّ -- يطفئُ الغُلّة أو يُشفي الصدور وتولّى الأملُ الحلوُ النديُّ -- وانطوَت في النفس أعلام السرور وتلاشى حولي عينيَّ الضياءُ وتساوى الصبحُ عندي والمساءُ ثُرْ كما شِئت وحطّمْ يا فَناءُ لا يهاب الموت أو يخشى القبور قلبي الزاهدُ في طول المسير عندما يحملُ إعصار المنون -- ما تراه من بقايا بدني ثمَّ تروي ذلك الشعر السُّنون ... وتغني بنشيد الفِتَن فترى الروعة والحسن البديعَا وجمالاً يملأ الدنيا جميعَا سوف أحيا فيك يا شعري ربيعَا خالداً إيقاعه في كل أذنِ رائعًا إشراقه في كل عينِ

أغاريد شعرية من وحي الربيع

يضجّ ديوان الشعر العربي عبر مختلف عصوره بما لا يُحصى من القصائد المُستوحاة من فصل الربيع. الربيع بمعانيه ودلالاته وإسقاطاته المتنوّعة.. وهذه مختارات شعريّة - نضيفها إلى ما أورده كُتّابنا الأفاضل في موضوعاتهم من نماذج شعرية - تكشف للقارئ بعض تجليّات الربيع في فكر ووجدان الشعراء.. الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي فلسفة الثعبان المقدس كان الربيعُ الحيُّ روحاً حالماً -- غضَّ الشَّبابِ مُعَطَّرَ الجلبابِ يَمْشي على الدّنيا بفكرةِ شاعرٍ -- ويطوفُها في موكبٍ خَلاَّبِ والأفْقُ يملأهُ الحَنانُ كأنَّهُ -- قَلْبُ الوجودِ المنتجِ الوهَّابِ والكونُ من طُهْرِ الحياةِ كأنّما -- هو معبدٌ والغابُ كالمحرابِ والشّاعرُ الشَّحرورُ يَرْقُصُ مُنشداً -- للشَّمسِ فوقَ الوردِ والأعشابِ شعْرَ السَّعادةِ والسَّلامِ ونفسهُ -- سَكْرى بسِحْر العالَم الخلاّبِ ورآه ثعبانُ الجبال فغمَّه -- ما فيه من مَرَحٍ وفيْضِ شبابِ وانقضَّ مضْطَغِناً عليه كأنَّه -- سَوْطُ القضاءِ ولعنةُ الأربابِ بُغِتَ الشَّقيُّ فَصاح في هول القضا -- متلفِّتاً للصَّائل المنْتابِ وتَدَفَّق المسكينُ يصرخُ ثائراً -- ماذا جنيتُ أنا فَحُقَّ عِقابي لا شيءَ إلاَّ أنَّني متغزّلٌ -- بالكائناتِ مغرِّدٌ في غابي ألْقى من الدّنيا حناناً طاهراً -- وأبُثُّها نَجْوى المحبِّ الصَّابي أيُعَدُّ هذا في الوجود جريمةً -- أينَ العدالةُ يا رفاقَ شبابي لا أين فالشَّرْعُ المقدّسُ ههنا -- رأيُ القويِّ وفكرةُ الغَلاّبِ وسَعادةُ الضَّعفاءِ جُرْمُ ما لهُ -- عند القويِّ سوى أشدِّ عِقابِ ولْتَشْهَدِ الدُّنيا التي غنَّيْتُها -- حُلْمَ الشَّبابِ وروعةَ الإعجابِ أنَّ السَّلامَ حَقيقةٌ مَكْذوبةٌ -- والعَدْلَ فَلْسَفةُ اللّهيبِ الخابي لا عَدْلَ إلاَّ إنْ تَعادَلتِ القوى -- وتَصادَمَ الإرهابُ بالإرهابِ فَتَبَسَّمَ الثُّعبانُ بَسْمةَ هازئٍ -- وأجابَ في سَمْتٍ وفَرْطِ كِذابِ يا أَيُّها الغِرُّ المُثرثرُ إنَّني -- أرثي لثورةِ جَهْلكَ التلاّبِ والغرُّ يعذره الحكيمُ إِذا طغى -- جهلُ الصِّبا في قلبه الوثّابِ فاكبحْ عواطفكَ الجوامحَ إنّها -- شَرَدَتْ بلُبِّكَ واستمعْ لخطابي إنِّي إلهٌ طالما عَبَدَ الوَرَى -- ظلِّي وخافوا لعنَتي وعقابي وتقدّموا لي بالضَّحايا منهُمُ -- فَرحينَ شأنَ العابدِ الأوّابِ وسَعادةُ النَّفسِ التَّقيَّةِ أنّها -- يوماً تكونُ ضحيَّةَ الأربابِ فتصيرُ في روحِ الألوهةِ بضعةً -- قُدُسِيَّةً خَلُصَتْ من الأوشابِ أفَلا يَسُرُّكَ أن تكونَ ضحيَّتي -- فتحُلَّ في لحمي وفي أعصابي وتكونَ عزماً في دمي وتوهُّجاً -- في ناظِريَّ وحدّةً في نابي وتذوبَ في روحي التي لا تنتهي -- وتصيرَ بعضَ ألوهتي وشَبابي إنِّي أرَدْتُ لكَ الخلودَ مؤلّهاً -- في روحيَ الباقي على الأحقابِ فكِّرْ لِتُدْرِكَ ما أريدُ وإنَّه -- أسمى من العيش القَصيرِ النَّابي فأجابه الشُّحرورُ في عُصَصِ الرَّدَى -- والموتُ يخنقه إليكَ جوابي لا رأي للحقِّ الضَّعيفِ ولا صدًى -- والرّأيُ رأيُ القاهرِ الغلاّبِ فافعلْ مشيئَتكَ التي قَدْ شئتَها -- وارحمُ جلالكَ من سماعِ خطابي وكذاك تُتَّخَذُ المظالمُ منطقاً -- عذباً لتخفِيّ سَوْءةَ الآرابِ الشاعر المصري إبراهيم ناجي الحب والربيع جدّدي الحبَّ واذكري لي الربيعَا -- إنني عشت للجمال تبيعا أشتهي أن يلفَّني ورق الأيـ -- ـكِ وأثْوِي خلف الزهورِ صريعا آهٍ دُرْ بي على الرِّفاق جميعًا -- واجعل الشمل في الربيع جميعا لا تَقُل لي اشتر المسرَّة والجا -- ه فإنِّي حُسْنَ الربى لن أبيعَا فلغيري الدنيا وما في حماها -- إنني أعشقُ الجمالَ الرفيعَا أنا من أجله عصيتُ وعُذِّبْـ -- ـتُ وأقسمتُ غيرَه لن أُطيعَا وبطيبِ الربيع أقتاتُ زهرًا -- وعبيرًا ولا أُكابد جوعَا فَهْو حسبي زادًا إذا عَفَت الدُّنـ -- ـيا وأقْوَتْ منازلًا ورُبوعَا الشاعر اليمني عبد الله البردوني سحر الربيع رصّع الدنيا أغاريد وشعرا -- وتفجّر يا ربيع الحبّ سكرَا وافرش الأرض شعاع وندى -- وترقرق في الفضا سحرا وإغرَا يا ربيع الحبّ لاقتك المنى -- تحتسي من جوّك سحرا يا عروس الشعر صفّق للغنَا -- ترقص في ضفاف الشعر كِبرَا أسفرت دنياك للشعر كما -- أسفرت للعاشق المحروم عُذرَا فهنا الطير تغنّي وهنا -- جدول يذري الغِنا ريذا وطُهرا وصبايا الفجر في حضن السَّنا -- تنثر الأفراح والإلهام نثرا والسهول الخضر تشدو والربّا -- جوقة تجلو صبايا اللّحن خضرا فكأنّ الجو عزفٌ مُسكر -- والحياة الغضّة الممراح سكرى والرياحين شذيّات الغنا -- تبعث اللّحن مع الأنسام عطرا وكأنّ الرّوض في بهجته -- شاعر يبتكر الأنغام زهرا وكأنّ الورد في أشواكه -- مهج أذكى عليها الحبّ جمرا وكأنّ الفجر في زهر الرُّبا -- قبلة عطريّة الأنفاس حَرّا يا ربيع الحبّ يا فجر الهوى -- ما أحيلاك وما أشذاك نشرا طلعة فوجا وجوّ شاعر -- عاطفيّ كلّه شوق وذكرى تبعث الدنيا حسنها -- مثلما تجلو ليالي العرس بكرا وتبثّ الحبّ في الأحجار لو -- أنّ للأحجار أكبادا وصدرا أنت فجر كلّما ذرّ الندى -- أنبتت من نوره الأغصان فجرا أنت ما أنت جمال سائل -- لم يدع فوق بساط الأرض شبرا وفتون ملهم يضفي على -- صبوات الفن إلهاما وفكرا ترانيما وفنّا كلّه -- عبقريّات توشّي الأرض تبرا ما ربيع الحبّ يا شعر وما -- سحره أنت بسحر الكون أدرى كلّما أورقت الأعشاب في -- حضنه أورقت الأرواح بشرى هو سرّ الأرض غذّته السما -- وجلته فتنا بيضًا وسُمرا ورواها الفنّ لحنا للهوى -- وأدارته كؤوس الزهر خمرا منظر أودعه فنّ السّما -- من فنون الخُلد والآيات سرّا الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي وداع الربيع ذَهَبَ الرَبيعُ فَفي الخَمائِلِ وَحشَةٌ -- مِثلُ الكَآبَةِ مِن فِراقِكَ فينا لَو دُمتَ لَم تَحزَن عَلَيهِ قُلوبُنا -- وَلَئِن أَضَعنا الوَردَ وَالنَسرينا فَلَقَد وَجَدنا في خِلالِكَ زَهرَهُ -- المُفتَرَّ وَبِالماءِ الَّذي يَروينا وَنَسيمَهُ الساري كَأَنفاسِ الرِضى -- وَشُعاعَهُ يَغشى المُروجَ فُتونا جَزَتِ المَحاسِنَ في الرَبيعِ وَفُقتَهُ -- إِذ لَيسَ عِندَكَ عَوسَجٌ يُدمينا يا أَشهُراً مَرَّت سِراعاً كَالمُنى -- لَو أَستَطيعُ جَعَلتُكُنَّ سِنينا وَأَمَرتُ أَن يَقِفَ الزَمانُ عَنِ السُرى -- كَيلا نَمُرَّ بِساعَةٍ تُبكينا وَنَمُدُّ أَيدِيَنا فَتَرجِعُ لَم تُصبِ -- وَتَعودَ فَوقَ قُلوبِنا أَيدينا خَوفاً عَلَيها أَن تَساقَطَ حَسرَةً -- أَو أَن تَفيضَ لَواعِجاً وَشُجونا قَد كُنتِ خِلتُ الدَهرَ حَطَّمَ قَوسَهُ -- حَتّى رَأَيتُ سِهامَهُ تُصمينا فَكَأَنَّما قَد ساءه وَأَمَضَّهُ -- أَنّا تَمَتَّعنا بِقُربِكِ حينا الشاعر الفلسطيني محمود درويش وأمّا الرَّبيع.. ‏(كزهر اللوز أو أبعد) وأما الربيعُ، فما يكتب الشُّعراءُ السكارى إذ أفلحوا في التقاط الزمان ِالسَّريع بصنَّارة الكلمات… وعادوا إلى صحوهِم سالِمين‏ قليلٌ من البرد في جَمرَةِ الجُلنار يُخفِّف من لسعة النار في الاستعارة ‏(لو كنتُ أقربَ منكِ إليَّ ‏ لقبَّلتُ نفسي)‏ قليلٌ من اللون في زهرةِ اللوز يحمي السَّماوات من حجَّة الوثنيِّ الأخيرة‏ ‏(مهما اختلفنا سندركُ أن السعادةَ‏ ممكنة مثل هزَّة أرضٍ) قليلٌ من الرَّقص في مهرجان الزَّواج الإباحيّ بين النباتات سوف ينشِّط دورتنا الدَّموية ‏(لا تعرف البذرةُ الموتَ مهما ابتعدنا) ولا تخجل الأبديةُ من أحدٍ ‏ حينَ تمنحُ عانتَها للجميع هنا… في الرَّبيع السَّريع ‏ الشاعر المصري علي محمود طه أغنية ريفية إذا داعبَ الماءُ ظلَّ الشَّجرْ -- وغازلَتِ السُّحْبُ ضوءَ القمرْ وردَّدتِ الطير أنفاسَها -- خوافقَ بين الندى والزَّهَرْ وناحتْ مُطوَّقةٌ بالهوى -- تناجي الهديل وتشكو القدرْ ومرَّ على النهرِ ثغرُ النسيم -- يُقَبِّلُ كلَّ شراعٍ عبرْ وأطلعتِ الأرضُ من ليلها -- مفاتنَ مختلفاتِ الصُّورْ هنالك صفصافةٌ في الدُّجى -- كأنَّ الظلامَ بها ما شعرْ أخذتُ مكانيَ في ظلها -- شريدَ الفؤادِ كئيبَ النظرْ أمرُّ بعيني خلال السماء -- وأُطرقُ مستغرقًا في الفِكَرْ أطالعُ وجهك تحت النخيلِ -- وأسمعُ صوتك عند النَّهَرْ إلى أنْ يَمَلَّ الدجى وحشتي -- وتشكو الكآبةُ مني الضجرْ وتعجبُ من حيرتي الكائناتُ -- وتُشفِقُ منِّي نجومُ السَّحرْ فأمضي لأرجع مستشرفًا -- لقاءَك في الموعد المنتظَرْ!!

يتصفحون الآن
أخر الأخبار