مثل يوسف هي، ولكنّ الحكاية لم تُكتَب هذه المرّة في كهفٍ مظلم، ولا في غيابة الجُبّ، بل على جبين الشمس، على صفحات الجراح، وفي عيون الأمهات التي تدمع وتبتسم معًا... لم يخنها إخوتها وحسب، بل تآمروا على نسفها في بحر النسيان.
لم يُغدر بها خفيةً، بل كان واضحًا كالسيف، جليًّا كالنهار، نُحرت على مرأى من العالم، واحتشدت ضدّها أنياب الخيانة والطمع. لكن في زمن الخراب، نهض النقاء، وقام القليل من العظماء... أولئك الذين لا يسكنون في عناوين الصحف، بل في قلوب العارفين، في تراب الوطن، وفي أسطر التاريخ الصادق. أولئك الذين أبَوا الضيم والخنوع، من لا تقبل كرامتهم الذلّ والهوان، هبّوا لمساندتها كما يُهَبُّ للنور حين يهدّدُه الظلام، بقلوبٍ لا تعرف التردّد، وأكُفٍّ صافحت الموت ولم ترتجف، فكان الثمن أثقل من الجبال، وأوجع من الفقد، لكنّه أنبل من أن يُقاس.
ترجّلوا عن صهوة الحياة... لا خضوعًا، بل عروجًا... عروجًا إلى مقامٍ لا تبلغه إلّا الأرواح الطاهرة، وأبَوا أن تُكتب أسماؤهم في سجلّ الصامتين، بل سطّروها بدم الشهادة، ومضوا. فيا موت، قف! هؤلاء لم تأخذهم، بل اصطفاهم الله...
فقد مضوا على بيّنة من أمرهم، تركوا الدّيار والأحباب، طلّقوا الدنيا ثلاثًا، واختاروا وصال الحبيب على طريقٍ وعرٍ لا يجرؤ أن يسلكه إلّا من نذر نفسه لله، رفضوا الذلّ والموت البطيء، وفضّلوا العزّة ولو كانت على مشنقة النسيان. فما داموا على الحقّ، إذًا لا يبالون أَوَقعوا على الموت، أو وقع الموت عليهم.
وبينما خذلنا الجميع، وباعنا القريب والغريب، وخارت الأكتاف من الانتظار، بقينا على الحقّ، نحمل وجعنا كرايةٍ، ونمضي. لم نهن، ولم نترك السّاح، لأنّنا أبناء حقّ وسلالة مقاوِمة، نُدرك أنّ من سار على طريق الحقّ، لا يهاب الموت بل يلقاه قرير العين، عزيز النفس، ثابت الخطوة.
بالروح، بالنبض، بالحرف المقاوم... سنحلم، نعم، سنحلم يا درويش. سنحلم جميعنا، لنُرمّم الشقوق في أرواحنا، ولننفض عن قلوبنا غبار اليأس، ونسكب فيها قليلاً من أمل، لعلّ الحلم يُصبح جسراً نعبر به من ضفّة الوجع إلى شاطئ الكرامة.
نعلم يا درويش أنّ المكيدة بلغت ذروتها، وأنها تمكّنت من اتخاذ مكانها في خاصرة الزمن، تفتك بما تبقى من أحلام الطفولة وضحكات الجدّات في الساحات. ونعلم أنّنا لن نوقف الزلزال، لا ندّعي امتلاك المعجزات... لكننا، على يقين، نستطيع أن نُغيّر، لا التاريخ فقط، بل الواقع نفسه.
فها هم أبطالنا يا درويش، لا أوراق تينٍ تُخفي وجعهم، ولا أقنعة على وجوههم. ها هم كسروا القيود، وفكّوا الأجنحة، وتجاوزوا سور المعجزة... فطار هدهدنا... لا ليحمل خبراً وحسب، بل ليُهدد كياناً بأكمله.
هدّدهم، بكرامةٍ لا تنحني، وبإيمانٍ لا يتصدّع، هدّدهم لأنه لم يعُد أسير الخوف، بل صار رسول الحرية... وبات سلاحًا بأيدينا. هدّد رأس كيانهم، لأن رأسنا كان مرفوعاً، والحقُّ لم يزل في عيوننا يلمع.
هذا هو الحُلم، حُلمنا الذي نمضي به، ونُعيد به رسم خارطة الروح، حُلمٌ قد لا يُورق في دفاتر السياسة، لكنه يورق في صدورٍ ما زالت تنبض بالحق. فدعنا نحلم يا درويش، دعنا نحلم كي لا نموت... أو على الأقل، كي نموت واقفين.
نعم لقد تلقّينا ضربات موجعة، وغادرنا أحبّتنا، وخسرنا بيوتنا، وقام العدو بمجازر لا تحصى ليرهبنا، لكن ماذا؟ ما كانت النتيجة؟ نحن لم نرضخ ولم نستكن لذلك العدو، وقد سطّر شبابنا على الحدود أعظم الملاحم، ما دعت برئيس حربهم لرفع التّحيّة لنا والاعتراف بعظمة هؤلاء الشباب المدافعين عن الأرض والعرض.
لذا نحن نقول للعالم أجمع، وبالفم الملآن، "هاؤم اقرأوا كتابيَ"، افتحوه بقلوبكم لا بأعينكم، فالحروف تنزف، والمواقف لا تُقرأ بل تُعاش. إن كان للأرز شموخٌ، فهُم من علّموه أن يكون عظيمًا. إن كان للشرف وزنٌ، فهم ميزانه. هذا كتابنا نُشهده على جباه العالم، نسطّر فيه حكايتنا، نرفع فيه وجوه أبطالنا التي لم تنحنِ لظلم، ولم تهادن لظالم.
نعم، هذا هو إرثنا، لا مال ولا منصب، بل خطى مغسولة بالدم، وأسماء منقوشة على الصخر، هذا ما ورثناه من أئمتنا، من قادتنا، من أمّهاتنا اللاتي لم يُنجبن رجالًا، بل قنابل ضوء، وشعلات لا تنطفئ، وزرعن فينا بذور المجد، هذا ما ورثناه من آبائنا الذين علّمونا أنّ الكرامة لا تُشترى بل تُصاغ من وجه التضحية.
وهذا ما سنورّثه لأبنائنا وأحفادنا: أنّ العزّة لا تُشترى، والحق لا يُساوَم، والشهادة ليست موتًا بل ولادة أخرى.. سيبقى فيهم نبضًا حيّا حتى قيام القائم.
أمّا أنتم، يا من رحلتم على درب الوعد، يا من ثبتُّم على هذا النهج والطريق، طريق الحق...طِبتم وطابت الأرض التي فيها استشهدتم وأنتم قابضين على راية العزّ، وقد فزتم فوزًا عظيما. وها نحن من بعدكم حافظين للنهج إن شاء الله، متمسّكين بالحقّ.
هنيئًا لنا بكم، بشهدائنا، بقادتنا، بأمّتنا... وهنيئًا لنا أن خُتمت صحفنا تحت راية مقدّسة، قائدها "نصر الله"، يمضي بالقلوب، وبالأقدام، ويقود النصر، كعهدٍ بين الأرض والسماء. هو ذلك القائد المغوار، الضرغام الذي لا يشبهه أحدٌ في هذا الزمان، المجبول بالعزّة والشهامة والشرف. هو رجلٌ، نعم، لكن بحجم أمّة بأسرها؛ أمّة خذلتها قياداتها، وتخاذلت عن نصرة الحق، فباعت إخوتها بأبخس الأثمان، وبعضها شارك في الجريمة ومدّ يده للعدوان.
أمّا هو، فكان أبيَّ الضيم، يأبى الظلم ويكسر قيوده، وقد قدّم رجاله وابنه وروحه قربانًا على مذبح الحرية ونصرة المظلوم. ولو أراد، لتزعّم العرب كلّهم، شرط أن يترك القضية، لكنّه أبى ذلك، وفضّل الشهادة على حياة الذّل.
فقدناه... نعم، فقدنا أغلى ما نملك، فقدنا الحامي والسند، صاحب الحق الذي ما بدّل وما استكان. وستبقى كلماته ندًى في القلوب، وعباءته ظلًّا فوق الرؤوس، وصوته قسمًا يُتلى حتى قيام القائم، تحت راية المهدي الشريف. يكفينا عزًّا أنّنا عشنا في زمنه الشريف، ويكفينا فخرًا أنّنا لم نهن، ونصرنا الحق، وسيشهد التاريخ، والله لنا بذلك.