تعيش القارة الأوروبية هذه الأيام على صفيح ساخن من النقاشات المحتدمة والحسابات المتناقضة حول مستقبل الحرب في أوكرانيا، وفي القلب منها السؤال الأكثر إرباكًا: هل ترسل أوروبا قواتها إلى كييف أم تكتفي بترتيبات أمنية أقل كلفة وأكثر حذَرًا؟ وما بين تهديدات ترتدي ثوب الجرأة ومخاوف تعكس عجزًا مزمِنًا، تبدو بروكسل غارقة في انقسام داخلي وصفته الصحافة الإيطالية ساخرَةً بأنه "حوار بين الأقزام السبعة"، في إشارة فاضحة إلى ضعف القيادة وتشتت القرار داخل الاتحاد. وبينما يرفع الأوروبيون منسوب خطابهم تجاه موسكو في محاولة لتعويض فراغ القوة، تفضّل واشنطن التمسك بدور القوّة الموجِّهة لا المقاتِلة، ساعية إلى إبقاء المعركة في حدود السيطرة دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة. هكذا يتكشّف التناقض: خطاب غربي مرتفع السقف، وواقع يشي بارتباك عميق، يفرض السؤال الحارق: هل الحديث عن إرسال قوات مجرد ورقة ضغط في لعبة تفاوضية كبرى بين موسكو وواشنطن، أم أنه بداية تحول استراتيجي يغيّر وجه الحرب بأكمله؟
في فرنسا وبريطانيا، اللتين طالما وُصفتا بأنهما ركيزتا العمل العسكري الغربي، برزت تصريحات لافتة تُلمح إلى إمكانية نشر قوات في أوكرانيا. غير أن الواقع الداخلي في البلدين يكشف عن "ضعف سياسي" يواجهه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، إضافة إلى أزمات اقتصادية ضاغطة، حيث نقلت صحيفة «بوليتيكو» عن مصدر دبلوماسي أوروبي أن "الضعف السياسي لماكرون وستارمر يجعل من الصعب تخيل كيفية تنفيذ هذه الخطة".
ومع ذلك، تكاد التحليلات تجمع على أن طرح باريس ولندن لفكرة إرسال قوات إلى أوكرانيا لا يعكس بالضرورة نية فعلية للتنفيذ، بقدر ما يمثل "أداة ضغط سياسية". فالتلويح بالقوة يمنح ماكرون وستارمر ورقة تفاوضية في مواجهة موسكو، كما يتيح لهما داخليا الظهور بمظهر "القادة الحازمين"، رغم إدراكهما أن الرأي العام في بلديهما يرفض أي تورط عسكري مباشر. وبناء على ذلك، يبدو أن فرنسا وبريطانيا تسعيان أساسا إلى "تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية" أكثر من سعيهما لخوض حرب جديدة على حدود روسيا.
هذا التقدير ينسجم مع ما أكده النائب الأوروبي البلجيكي رودي كينيس، الذي شدد على أن الاتحاد الأوروبي عاجز عن نشر قوات في أوكرانيا لأسباب عسكرية وسياسية، لافتا إلى أن الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب قد حسما موقفهما من هذه المسألة. وأوضح كينيس في حديث لوكالة نوفوستي أن "أي تدخل أو نشر لقوات حفظ سلام لا يمكن أن يتم إلا عبر الأمم المتحدة"، محذرا من عواقب أي مغامرة عسكرية على الرأي العام الأوروبي، بالقول: "من يريد عودة الجنود في أكياس الجثث؟ عندما يضطر الأبناء للذهاب إلى الجبهة، سيتغير كل شيء". كما وصف كينيس لقاء قادة الاتحاد الأوروبي بالرئيس الأمريكي في البيت الأبيض مؤخرا بأنه كان "محرجا للغاية"، مشبها أجواء الاجتماع بمن يجلس على طاولة و"أحدهم يحمل قنبلة يدوية".
قيود عسكرية وحسابات مرهقة
في المقابل، اتسم الموقف الألماني بقدر أكبر من الصراحة، فقد أكد رئيس حكومة ولاية سكسونيا ميشائيل كريتشمر أن الجيش الألماني ببساطة "يفتقر إلى الإمكانات اللازمة" لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا. وجاء ذلك متوافقا مع تصريحات وزير الدفاع بوريس بيستوريوس الذي شدد على أن شكل المساهمة الألمانية في أي ضمانات أمنية لم يُحدد بعد، وأن الأمر يحتاج إلى قرار سياسي وعسكري أوسع.
وزير الخارجية الألماني يوهان واديفول أضاف بعدا جديدا حين قال إن نشر قوات في أوكرانيا سيكون "عبئا كبيرا"، خاصة أن بلاده تتحمل أصلا مسؤولية قيادة لواء قتالي في ليتوانيا ضمن التزامات الناتو. هذه المواقف تعكس "ترددا ألمانيا واضحا"، لكنها في الوقت نفسه لا تغلق الباب أمام المشاركة في ترتيبات أمنية، وإن بشكل غير مباشر. برلين تريد الحفاظ على صورتها كقوة أوروبية مسؤولة، لكنها لا ترغب في دفع ثمن عسكري وسياسي قد يتجاوز طاقتها.
أما بولندا، صاحبة أكبر قوات مسلحة حاليا في الاتحاد الأوروبي، فقد كانت أكثر وضوحا: لا إرسال لجنود إلى أوكرانيا، حيث أكد مسؤولون بولنديون أكدوا أن وارسو لا تستطيع إضعاف قواتها أو تعريض أراضيها للخطر، خاصة وهي تجاور روسيا وبيلاروس. لكنها في المقابل أعلنت استعدادها للمساهمة في الدعم اللوجستي. هنا تتجلى "المعضلة البولندية": من جهة تريد تعزيز موقعها كقوة إقليمية قائدة في شرق أوروبا، ومن جهة أخرى تدرك خطورة المجازفة بدخول مواجهة مباشرة مع موسكو.
في واشنطن، يبدو أن الموقف أكثر وضوحا مقارنة بالعواصم الأوروبية. فقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرارا أن بلاده لن ترسل قوات إلى أوكرانيا، مؤكدا في الوقت ذاته أهمية تقديم "ضمانات أمنية" تفتح الطريق نحو تسوية سلمية دائمة. وأوضحت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم الدعم والتنسيق مع الحلفاء، لكنها لن تُقحم جنودها في الميدان.
ويفضّل ترامب، على ما يبدو، الرهان على الدبلوماسية المباشرة بدلا من التصعيد العسكري، إذ عقد سلسلة لقاءات مع القادة الأوروبيين، فضلا عن اجتماعاته المنفصلة مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي تصريحات لافتة، أعلن ترامب بوضوح أن "أوكرانيا لن تكون أبدا جزءا من الناتو"، في إشارة تعكس إدراكه لحساسية هذا الملف لدى موسكو واعتباره خطا أحمر لا يمكن تجاوزه.
الأكثر إثارة للجدل كان خوض ترامب في جذور الأزمة الأوكرانية، حيث أكد أن الاتحاد السوفيتي وروسيا كانا "على حق" في رفض تمدد حلف شمال الأطلسي باتجاه حدودهما. وأوضح في مقابلة تلفزيونية أن هذا الموقف لا يخص بوتين وحده، بل يعود إلى ما قبل وصوله إلى السلطة، مشددا على أن عضوية أوكرانيا في الحلف ليست مطروحة على الطاولة بأي حال. هذا الطرح، الذي أثار عاصفة من ردود الفعل، يتقاطع مع ما سبق أن أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من أن حياد أوكرانيا هو الشرط الجوهري للاعتراف بسيادتها واستقلالها.
أما المكالمة الهاتفية الأخيرة بين ترامب وبوتين، وما سبقها من قمة ألاسكا، فقد عكستا اتجاها أمريكيا نحو مقاربة أكثر براغماتية، تركز على معالجة الأسباب الجذرية للنزاع بدلا من الاكتفاء بإدارة نتائجه. وأكد الجانبان ضرورة التوصل إلى تسوية تضمن عدم تكرار عوامل الأزمة، مع مراعاة المصالح الأمنية لجميع الأطراف. ومن اللافت أن ملف العقوبات لم يُطرح خلال المحادثات، ما يوحي بوجود رغبة متبادلة في إبقاء الباب مفتوحا أمام تفاهمات مستقبلية.
"تحالف الراغبين".. حل وسط أم وهم جديد؟
موسكو من جانبها لم تتردد في التلويح برسائل شديدة اللهجة، فقد حذرت الخارجية الروسية من أن أي نشر لقوات للناتو في أوكرانيا سيُعتبر "تصعيدا خطيرا"، فيما أكد وزير الخارجية سيرغي لافروف أن بلاده لا ترى إمكانية للتوصل إلى حل وسط بشأن قوات حفظ السلام الأجنبية. هذه التصريحات تعكس قناعة روسية راسخة بأن أي وجود عسكري غربي مباشر على حدودها يُعد تجاوزا لا يمكن القبول به، وأن الرد سيكون بالقدر الذي يضمن الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية.
وفي ظل هذا الموقف الروسي المتشدد من جهة، والتردد الأوروبي والرفض الأمريكي من جهة أخرى، برز مقترح "تحالف الراغبين" كصيغة غامضة، تقوم على التزامات أمنية غير رسمية تقدمها بعض الدول لكييف بعد توقف القتال، من دون أن ترقى إلى مستوى ضمانات الناتو الملزمة. وقد أوضح ممثل واشنطن لدى الحلف، ماثيو ويتكر، أن هذه الضمانات لا تعني نشر قوات أمريكية، بل قد تقوم على مبدأ شبيه بالمادة الخامسة من ميثاق الناتو، لكن بصياغة فضفاضة تسمح بهوامش مناورة واسعة.
غير أن هذا الطرح يثير أسئلة جدية: هل تستطيع الدول الأوروبية، المثقلة بأزماتها الداخلية، تحمّل كلفة ضمان أمن أوكرانيا على المدى الطويل؟ وهل يشكّل "تحالف الراغبين" بديلا حقيقيا للناتو، أم مجرد واجهة سياسية تهدف إلى طمأنة كييف من دون استفزاز موسكو؟ المؤكد أن واشنطن تميل إلى "إلقاء العبء الأكبر على الأوروبيين"، مكتفية بدور الموجه والمنسق، فيما تبدو باريس ولندن أكثر ميلا لاستخدام لغة القوة للضغط وانتزاع مكاسب تفاوضية سواء مع موسكو أو حتى داخل البيت الأوروبي.
في خضم هذا الجدل، يواصل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تحركاته الدبلوماسية لكسب أكبر قدر ممكن من التعهدات الأمنية. فقد أجرى مؤخرا سلسلة اتصالات مع قادة أوروبيين، بينهم رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا ورئيس الوزراء النرويجي يوناس غار ستوره، بحث خلالها الضمانات الأمنية لكييف والعقوبات الأوروبية المرتقبة ضد روسيا. وأكد زيلينسكي أن أوكرانيا تعمل مع جميع شركائها "لضمان توفير ضمانات قوية"، فيما وصف ستوره هذا التوجه بأنه "نجاح تاريخي"، معتبرا أن أوروبا لم تتوحد بشأن أوكرانيا بهذا الشكل من قبل.
ولم يقتصر الحراك على الاتصالات الثنائية؛ إذ استضاف البيت الأبيض اجتماعا موسعا جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعدد من القادة الأوروبيين، بينهم ماكرون وستارمر وميرتس وميلوني وفون دير لاين، إضافة إلى الأمين العام لحلف الناتو مارك روته، وذلك بعد أيام من قمة ألاسكا التي جمعت ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 أوت الجاري، لبحث سبل وقف إطلاق النار.
وفي موازاة ذلك، كشف موقع "أكسيوس" أن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو سيتولى رئاسة فريق عمل مخصص لإعداد خطة الضمانات الأمنية لأوكرانيا. وبحسب الموقع، سيعمل في هذا الفريق مسؤولون رفيعو المستوى من الولايات المتحدة وأوكرانيا وعدة دول أوروبية، على صياغة مقترح تفصيلي قد يتضمن مشاركة القوات الجوية الأمريكية. كما يشارك في هذه المناقشات مستشارون للأمن القومي من كييف والعواصم الأوروبية.
ومع ذلك، فإن جميع هذه الاجتماعات، سواء التي عُقدت بالفعل أو تلك المقررة لاحقا، لا تبدو قادرة على إحداث تحول جوهري في معادلة التردد القائمة. فالأوروبيون ما زالوا يرفضون أي تسوية سلمية حقيقية، ويواصلون التأرجح بين رفع سقف الخطاب الداعم لأوكرانيا وبين الخشية من تحمّل كلفة أي التزام عسكري مباشر.
بين معاداة موسكو ومجاملة ترامب
ما بين التصريحات المتشددة الصادرة عن باريس ولندن، والحذر البالغ الذي يطبع مواقف برلين ووارسو، وبين تشدد موسكو من جهة، وحياد واشنطن النسبي من جهة أخرى، يتضح أن ملف إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا لا يزال أقرب إلى "أداة ضغط سياسية" منه إلى خطة عسكرية واقعية قابلة للتنفيذ. ففرنسا وبريطانيا تلوّحان بالقوة في محاولة لانتزاع مكاسب سياسية أو تعزيز أوراقهما التفاوضية مع موسكو، بينما يفضل معظم العواصم الأوروبية التراجع خطوة إلى الوراء خشية الانزلاق نحو مواجهة مباشرة مع روسيا لا يمكن التكهن بمآلاتها.
بهذا المعنى، يتحول النقاش الدائر حول "القوات الأوروبية" إلى مرآة تكشف هشاشة الموقف الأوروبي نفسه: خطابات مرتفعة النبرة في العلن، يقابلها قدر كبير من التردد والحذر على الأرض. وبينما تبقى أوكرانيا ساحة اختبار لمصداقية الغرب وقدرته على الصمود في مواجهة موسكو، تبدو أوروبا وكأنها ما زالت تبحث عن صيغة تحفظ ماء وجهها وتمنحها مظهرا من التماسك السياسي، من دون أن تضطر إلى دفع الثمن الباهظ لحرب لم تكن صاحبة قرار اندلاعها ولا قادرة على التحكم في مآلاتها.
هذا التناقض لم يمرّ من دون انتقادات داخلية حادة. فقد شنّ ماركو ترافاليو، رئيس تحرير صحيفة Fatto Quotidiano الإيطالية، هجوما لاذعا على القادة الأوروبيين، واصفا إياهم بـ "الأقزام السبعة"، ومتسائلا بسخرية عن السبب الذي جعلهم يتخلون عن خطابهم العدائي لروسيا بمجرد جلوسهم إلى طاولة واحدة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وفي افتتاحية مثيرة للجدل، كتب ترافاليو أن الاتحاد الأوروبي لم ينجح حتى الآن في صياغة رؤية مشتركة لسياسته تجاه أوكرانيا، وانتهى به المطاف في واشنطن مجرد تابع لزيلينسكي، مضيفا أن القاسم المشترك الوحيد بين هؤلاء القادة هو ما سماه "غطرستهم الحمقاء"، بعد أن قضوا أكثر من 42 شهرا يكررون شعارات جوفاء عن تسليح كييف وفرض العقوبات على روسيا واستعادة القرم ودونباس.
ولم يتوقف النقد عند هذا الحد، بل ذكّر ترافاليو بأن القادة الأوروبيين الذين وجّهوا العام الماضي انتقادات حادة إلى رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان والمستشار الألماني أولاف شولتس بسبب اتصالاتهما ببوتين، هم أنفسهم الذين يصفقون اليوم لترامب بعد لقائه بالرئيس الروسي. ثم تساءل بحدة: "لماذا لا يكرر الأوروبيون اليوم ما كانوا يرددونه منذ 2022؟ أليس لأنهم أدركوا أخيرا أنهم أخطأوا في كل شيء وخسروا كل شيء؟". وختم مقاله بالقول: "يكفيهم أن يعترفوا: نحن مجموعة من غير الأكفاء، ونعتذر لمن فهموا قبل ثلاث سنوات ما بدأنا نفهمه اليوم".
وعليه، فإن المشهد الأوروبي يبدو غارقا بين تردد داخلي وانقسام سياسي، وضغوط خارجية وتحديات استراتيجية، وهو ما يجعل من أوكرانيا ليس فقط ميدان اختبار لمصداقية الغرب في مواجهة روسيا، بل أيضا مرآة عاكسة لأزمة القيادة داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، أزمة تكشف حدود القوة الأوروبية وضعف قدرتها على صياغة سياسة موحدة تتجاوز ردود الأفعال الظرفية والخطابات الاستعراضية.