2025.07.17
قصاصات لاجئة
الأسير المُحرَّر \

الأسير المُحرَّر "أسامة محمد علي أشقر" (3)


تُعرف الشاعرة الفلسطينية "نهى شحادة عودة" في المجتمع الأدبي العربي باسم "ياسمينة عكَّا"، أبصرت النور في مُخيّمات اللاجئين في لبنان ذات يوم مُندسٍّ بين أعوام ثمانينيات القرن الماضي، وتعود أصولها إلى قرية شعب في قضاء عكّا بفلسطين.. هي ناشطة ومناضلة من أجل الحفاظ على الثقافة والذاكرة الفلسطينية وضمان توريثها لأجيال اللاجئين.. نشرت رواية واحدة وعددا من الدواوين الشعرية، وخصّت جريدة "الأيام نيوز" بمجموعة من القصاصات التي أودع فيها الأسرى المُحرّرون الفلسطينيون بعض ذكرياتهم في رحلة العذاب..

لم نكمل دورتنا العسكرية في مدينة أريحا، حينما طُلب من المتدرّبين والمُدرِّبين أن ينزلوا إلى شارع القدس في أريحا لحماية المتظاهرين الفلسطينيين - ضد اقتحام المجرم "شارون" للمسجد الأقصى - من قوات الاحتلال التي كانت قد فتحت النار عليهم وأدّى ذلك إلى استشهاد بعضهم.

اشتبك الأمن الوقائي الفلسطيني مع قوات الاحتلال، ودام الاشتباك من الساعة الثانية ظهرًا حتى السابعة مساء، ثم انسحبت قوات الاحتلال، وعاد الأمن الوقائي إلى حدود مدينة أريحا. وكان هذا الاشتباك في بداية الألفين من هذا القرن هو أول اشتباك مع الاحتلال أشارك فيه بشكل فعلي.

أنهيتُ الدورة التكوينية في الأمن الوقائي، والتحقتُ بعملي في مدينة "رام الله". وخلال الإجازات، كنتُ أذهب إلى مدينة "طولكرم"، مُسلّحًا بـ "بارودة صيد" تُسمّى عندنا "خرطوش"، وأتوجّه سرًّا إلى منطقة فيها شارعٌ للمستوطنين وتَجوبه سيّارات الاحتلال (الجيب)، فأقوم بإطلاق النار على "الجيب" أو سيارات المستوطنين، وكان ذلك بقرارٍ فرديٍّ منّي فلم تكن الخلايا والمجموعات العسكرية قد تشكّلت بعد في إطار مُنظّم ومُهيكل.

خلال تلك الفترة، تمّ اعتقال شابَّين من بلدتي كانا يعرفان بأعمالي، فقد كان عملهم قريبا من المنطقة التي كنتُ أذهب إليها لإطلاق النار على المستوطنين، وسرعان ما انتبهَا إلى ما كنتُ أقوم به، حتى أنّ أحدهما - وهو صديقٌ لي، وقضى في الأسر أكثر من عشرين عاما - طلب أن ينضمّ إليَّ، وقد سعدتُ بطلبه، ولكنني طلبت منه أن نتريّث إلى حين الحصول على أسلحة أكثر فعاليّة من بارودة الصيد، ثم نكوّن خليةً عسكرية تعمل بشكل مُنظّم، لأن العمل غير المُنظّم بسلاح الصيّد يُرعب العدوّ ويكركبه ولكنه لا يحقّق أهدافًا كبيرة.

كان الشابّان، قبل اعتقالهما، يعملان مع شبّان آخرين، فيقومون بعمليات إطلاق النار ورمي المولوتوف ضد قوات الاحتلال.. وقد استطاع الاحتلال أن يستدرج الشابين المُعتقلين لأول مرّة في حياتهم، من خلال عملائه المبثوثين في السجن، فاعترفا عليَّ من خلال حيلة "العصافير"..

حيلة "العصافير" تتمثّل بوضع الأسرى في غُرفٍ وزنازين يتواجد فيها أيضًا عملاء يدّعون الوطنية ويزعمون بأنهم مناضلين وينتحلون أسماءً لمناضلين حقيقيين لهم صيتهم في المجتمع الفلسطيني.. ويتقرّبون من الأسير الجديد ويحاولون أن يكتسبوا ثقته، ثم يبدؤون باستدراجه عن طريق الدردشة، فيسألونه: ما هي قضيتك؟ ومع مَن تعمل؟ ومن تود أن تبلغه برسائلك خارج السّجن؟ وأسئلة أخرى كثيرة تجعل الأسير الجديد يطمئن لهم، ويتحدّث معهم بتحفّظ قليل.. فيقع في الفخّ. وهذا ما يُسمّى: "غُرف العصافير"، وهي آفةٌ كبيرة على حديثي الاعتقال حتى الآن.

وقد تطرّقتُ إلى خطورة "غُرف العصافير" في كتابي "للسجن مذاق آخر"، وكيف أن هذه "الحيلة" كلّفتنا أعدادًا كبيرة من الأسرى الذين انكشف أمرهم في هذه الغُرف، وبدلاً من يلتزم الأسير الصمتَ أو يكون شديد التحفّظ في الكلام ولا يثق فيمن لا يعرفهم، فيُمكنه أن يعود إلى بيته بدلاً من أن يُسلَّط عليه عقوبات بالسجن لعشرات السنين أو لمؤبّدات.. وهكذا انكشف اسمي عن طريق العملاء في "غرفة العصافير".

تبلّغتُ من جهاز الأمن الوقائي بأن الاحتلال قد أبلغهم عني وبأن "أسامة" عليه اعترافات. طلبوا منّي أن أكون يقظًا ومتنبّهًا في حواجز الاحتلال، ويُفضَّل أن أبقى في "رام الله" ولا أغادرها..

مكثتُ في "رام الله" فترة محدودة، كانت خلالها وتيرةُ الانتفاضة متسارعة بشكل كبير. وقد برز وقتها في طولكرم مجموعات وخلايا عسكرية: الشهيد ثابت ثابت، الشهيد رائد الكرمي، الشهيد زياد الدعاس، الشهيد فراس الجابر، ومجموعة من الشهداء..

وفعليًّا، صار هناك اتفاق مع الأمريكان عن طريق الشهيد "أبو عمار" وطاقم المفاوضات الذي كان يرأسه الدكتور الراحل "صائب عريقات"، ومحتوى الاتفاق هو أن يتم نقل "مُؤسّسي الخلايا" من "طولكرم" إلى "رام الله" إلى أن تهدأ الأمور ويصبح هناك تهدئة.. وجاء مؤسّسو الخلايا إلى مقرّ الأمن الوقائي في "رام الله"، وهنا حدثت أول معرفة شخصية لي بالشهيد "رائد الكرمي"، فبدأت مرحلة أخرى في مسيرتي النضالية..

يتصفحون الآن
أخر الأخبار