كأنّ كشمير، هذا الفردوس الجبلي المعلّق بين الغيم والدم، يظل غير مسموح له أن يهدأ طويلاً. ففي كل مرة تلُوح فيها فرصة للسلام، يأتي حدث دموي ليهدم ما بُني، ويُعيد عقارب الخوف إلى الوراء. الهجوم الأخير الذي استهدف مجموعة من السياح في وادي بيساران، لم يكن مجرد عملية إرهابية عابرة، بل كان الشرارة التي فجّرت موجة تصعيد غير مسبوقة بين الجارتين النوويتين: الهند وباكستان.
منذ 22 أفريل، تتدحرج الأحداث بسرعة تنذر بالخطر: صدمة في الشارع الهندي، غضب في مراكز القرار، تهديدات بتمزيق معاهدات بقيت صامدة لعقود، وترحيل جماعي لمواطنين على أساس الهوية الوطنية. وفي الجهة الأخرى من الحدود، إسلام آباد تستنفر أجهزتها، وتعلن الرد بالمثل، وتلوّح بعبارات ثقيلة: "مواجهة نووية"، "رد غير تقليدي"، و"تحوّل في الجغرافيا والمياه". ليس جديدًا أن تكون كشمير ساحة للحروب الصغيرة والكبيرة، ولا مفاجأة في أن يتحول الصراع السياسي إلى تبادل لإطلاق النار على خط السيطرة. لكن المختلف هذه المرة هو حجم التهديدات ووضوح النوايا، فالتصعيد بات يُدار بمنطق الانتقام، لا بمنطق الردع. والخطابات السياسية لم تعد تكتفي بالإدانة أو التحذير، بل صارت تتحدث عن "تحويل مجرى المياه" و"الخيار النووي" و"السيادة المهددة"، وهي مفردات لا تنذر بحرب محدودة، بل بانفجار شامل قد تمتد نيرانه إلى ما بعد الحدود. في خلفية هذا المشهد القاتم، يقف العالم متفرجًا، مكتفيًا بنداءات باهتة تدعو إلى الحوار، دون أن يلوح في الأفق أي تحرك دولي جاد أو وساطة حقيقية قادرة على تهدئة التوتر المتصاعد. وكأنّ المجتمع الدولي بات يتعامل مع اشتعال كشمير كأمرٍ اعتيادي، غير مدرك لحجم الكارثة التي قد يشعل فتيلها خطأ عابر أو صاروخ طائش. جنوب آسيا لا تواجه أزمة دبلوماسية تقليدية، بل تقف فعليًا على حافة هاوية. ومع تنامي النزعة القومية، وتزايد المزايدات السياسية، وغياب الرؤية الجماعية، تبدو المنطقة أقرب من أي وقت مضى إلى انفجار لا تُحمد عقباه. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل ستعود كشمير إلى دائرة التهدئة، أم أنها تمضي بخطى متسارعة نحو نارٍ قد تعجز المنطقة، بل والعالم، عن إخمادها؟ في هذا السياق، دعت الأمم المتحدة الهند وباكستان إلى ممارسة "أقصى درجات ضبط النفس"، بعد أيام قليلة من تصاعد خطير في التوترات شمل طرد دبلوماسيين، وتعليق التأشيرات، وإغلاق المعابر، إثر هجوم دموي وقع يوم الثلاثاء واستهدف سياحًا في كشمير، وأسفر عن تبادل لإطلاق النار بين الجيشين في وقت مبكر من صباح أمس الجمعة. وصرّح سيد أشفق جيلاني، المسؤول في الشطر الباكستاني من كشمير، لوكالة فرانس برس، أن "تبادلًا لإطلاق النار جرى خلال الليل في وادي ليبا دون استهداف المدنيين، والحياة تسير بشكل طبيعي والمدارس لا تزال مفتوحة". من جهته، أكد الجيش الهندي وقوع إطلاق النار بأسلحة خفيفة، متهماً باكستان بتنفيذه، ومؤكداً أنه "رد عليه بفعالية". الهجوم الدامي الذي وقع في بلدة "بيهالغام" في كشمير الخاضعة للسيطرة الهندية، وأسفر عن مقتل 26 شخصًا، أشعل موجة غضب في الهند، قابلتها إجراءات تصعيدية حملت اتهامات مبطّنة لباكستان. ورغم أن كلا البلدين يطالبان بالسيادة الكاملة على كشمير، إلا أن كل طرف يسيطر فقط على جزء منها، وقد خاضا بسببها عدة حروب منذ الاستقلال عام 1947. وقد تبنّت الهجوم جماعة تطلق على نفسها اسم "جبهة المقاومة"، حيث نفذ مسلحون يرتدون زيًا مموهًا عملية إطلاق نار عشوائي استهدفت مجموعة من السياح على ظهور الخيل، ما فجّر أزمة سياسية وعسكرية شديدة التوتر. الهند ترد بقوة.. إجراءات صارمة ضد باكستان رد الفعل الهندي لم يتأخر، إذ قررت الحكومة اتخاذ سلسلة من الإجراءات العقابية ضد باكستان. فقد أعلن وزير الخارجية الهندي، فيكرام ميسري، أن الهند تعتزم تعليق العمل بمعاهدة تقاسم مياه نهر السند، إلى حين ما وصفه بـ"تخلي باكستان بشكل موثوق ولا رجعة فيه عن دعمها للإرهاب العابر للحدود". وقد تبع ذلك تصعيد دبلوماسي تمثل في طرد عدد من الدبلوماسيين الباكستانيين وإغلاق المعبر الحدودي الرئيسي، إضافة إلى قرار وزارة الخارجية الهندية بإلغاء جميع التأشيرات الممنوحة للمواطنين الباكستانيين، باستثناء التأشيرات الطبية التي سيتوقف العمل بها نهاية أفريل، مع وقف كلي لخدمات التأشيرات ابتداءً من 27 أفريل. أما داخليًا، فقد وجّه وزير الداخلية الهندي، أميت شاه، حكام الولايات إلى ترحيل جميع المواطنين الباكستانيين من الأراضي الهندية، وهو إجراء غير مسبوق يفتح الباب أمام توتر شعبي وأمني قد يمتد خارج الحدود الرسمية. إسلام آباد ترد بالمثل وتحذر من "الحرب" من جانبها، ردت باكستان بلهجة حادة عبر مختلف المستويات. فبعد اجتماع طارئ للجنة الأمن القومي ترأسه رئيس الوزراء شهباز شريف، أعلنت الحكومة الباكستانية إجراءات مقابلة، شملت إغلاق الحدود البرية والمجال الجوي أمام الطائرات الهندية، وتعليق التجارة مع الهند بالكامل. كما أعلنت طرد المستشارين الدفاعيين والبحريين والجويين الهنود، ووصفتهم بأنهم "شخصيات غير مرغوب فيها"، مطالبة إياهم بمغادرة البلاد فورًا. وفي سياق التهديد المباشر، حذر وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف من أن استمرار التصعيد قد يجر المنطقة إلى "مواجهة نووية كارثية"، مؤكدًا أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء أي محاولة هندية لانتهاك السيادة الباكستانية، سواء عبر التوغل المباشر أو من خلال محاولات تغيير الواقع الجغرافي أو المائي، في إشارة إلى تهديدات الهند بتعليق معاهدة مياه نهر السند. وصرّح آصف بوضوح: "أي محاولة هندية لتحويل مجرى المياه أو عرقلة تدفقها بموجب المعاهدة، سنعتبره عملاً عدائياً، وسيقابل برد لا هوادة فيه". كما أشار إلى أن الرد الباكستاني قد يكون "غير تقليدي"، ما فُهم على أنه تلميح إلى إمكانية اللجوء إلى خيارات عسكرية واسعة، ربما تشمل استخدام الأسلحة النووية إذا بلغ التهديد مستويات قصوى. الميدان يشتعل.. تبادل لإطلاق النار واستنفار عسكري لم يبقِ التصعيد محصورًا في الأروقة السياسية، بل سرعان ما ترجم ميدانيًا بتبادل لإطلاق النار على عدة نقاط حدودية في كشمير، مساء أمس الجمعة، دون تسجيل إصابات. وأفاد مصدر عسكري هندي لقناة NDTV أن "الجانب الباكستاني بدأ بإطلاق نار من أسلحة خفيفة على بعض المناطق على طول خط السيطرة، وقد تم الرد بفعالية". تزامنًا، كثفت القوات الهندية من وجودها الأمني في كشمير الخاضعة لسيطرتها، وشرعت في عمليات تمشيط واسعة بحثًا عن منفذي الهجوم الأخير، حيث توعد وزير الدفاع الهندي راجناث سينغ بملاحقة "المنفذين والمدبرين، أينما كانوا". وتصاعدت الدعوات في وسائل الإعلام الهندية إلى "رد قاسٍ" على باكستان، وسط تصاعد الخطاب القومي والمزايدات السياسية التي تجد صدى كبيرًا في الشارع الهندي، خاصة في ظل اقتراب موعد الانتخابات في بعض الولايات. المجتمع الدولي في حالة قلق صامت ورغم خطورة التصعيد الجاري، لا تزال ردود فعل المجتمع الدولي خجولة إلى حد كبير، وسط دعوات خافتة للتهدئة والحوار. ويتخوف مراقبون من أن يؤدي هذا الصمت إلى تشجيع أحد الطرفين على اتخاذ خطوات أحادية قد تدفع بالمنطقة نحو حرب فعلية. ففي ظل امتلاك البلدين لترسانتين نوويتين، يبقى أي تصعيد خارج السيطرة محفوفًا بعواقب كارثية، ليس فقط على المستوى الإقليمي، بل على الأمن العالمي ككل. لفهم تعقيدات الأزمة الكشميرية، لا بد من العودة إلى جذورها التي تعود إلى عام 1947، حين شهدت شبه القارة الهندية واحدة من أكثر لحظات الانقسام دموية في القرن العشرين، مع نهاية الاستعمار البريطاني وتشكيل دولتي الهند وباكستان. في ذلك الوقت، مُنح الحكّام المحليون للولايات الأميرية حق اختيار الانضمام إلى الدولة التي يرغبون بها. وكان مهراجا كشمير، هاري سينغ، يحكم ولاية ذات غالبية مسلمة، لكنه كان هندوسيًا، ما جعله يتردد في اتخاذ قرار حاسم بشأن الانضمام لأي من الطرفين. تفاقمت الأزمة في أكتوبر من العام ذاته، عندما اجتاح رجال قبائل من باكستان أراضي كشمير، بزعم الدفاع عن المسلمين بعد ورود أنباء عن اعتداءات ضدهم. حينها، طلب المهراجا الدعم من نيودلهي، التي اشترطت توقيعه على "وثيقة الانضمام" إلى الهند قبل إرسال أي تعزيزات عسكرية. وبعد توقيعه الوثيقة، تدخل الجيش الهندي وسيطر على نحو ثلثي الإقليم، بينما بقي الجزء الشمالي تحت إدارة باكستان. ولا يزال التوقيت الدقيق لهذه التطورات – ما إذا كان توقيع الوثيقة سبق التدخل العسكري أو العكس – مثار خلاف جذري بين البلدين حتى يومنا هذا. منذ ذلك الحين، تحوّلت كشمير إلى واحدة من أكثر المناطق عسكرة في العالم، وخاضت الهند وباكستان ثلاث حروب رئيسية بسببها (1947–1948، 1965، و1999)، إلى جانب عدة أزمات كادت أن تتطور إلى مواجهة شاملة، كما حدث في أزمة عام 2002. وقد ساهم دخول الصين على خط النزاع – عبر سيطرتها على منطقة "أكساي تشين" المتنازع عليها – في تعقيد المشهد، وجعل من كشمير بؤرة تجاذب إقليمي ودولي دائم. شهدت العقود الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في النزعة القومية الكشميرية، مع تزايد الأصوات المطالبة بخيار ثالث يتمثل في الاستقلال الكامل عن كل من الهند وباكستان، وهو خيار يرفضه الطرفان بشدة. ومنذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، اندلعت انتفاضة مسلحة ضد الحكم الهندي في الجزء الذي تسيطر عليه نيودلهي، مما دفع الأخيرة إلى فرض قوانين طوارئ صارمة، أبرزها "قانون السلطات الخاصة للقوات المسلحة"، الذي منح الجيش صلاحيات واسعة في مواجهة التمرد. وفي عام 2019، فجّرت الحكومة الهندية أزمة جديدة حين ألغت الوضع الخاص الذي كان يمنح إقليم جامو وكشمير درجة من الحكم الذاتي. لم تكتف بذلك، بل قامت أيضًا بتقسيم الولاية إلى منطقتين اتحاديتين تُداران مباشرة من قبل السلطة المركزية، في خطوة وُصفت بأنها محاولة لتغيير الطابع الديمغرافي والثقافي للإقليم. وقد أثار هذا الإجراء غضب باكستان، التي اعتبرته خرقًا صارخًا للاتفاقيات الثنائية ولروح التفاهمات الأممية بشأن كشمير. ردّت إسلام آباد بتجديد مطالبها بإجراء استفتاء شعبي تحت إشراف الأمم المتحدة، مستندة إلى قرارات دولية تنص على حق تقرير المصير لشعب كشمير. في المقابل، ترفض الهند هذا الطرح، وتعتبر أن مشاركة سكان الإقليم في الانتخابات المحلية دليل كافٍ على قبولهم بسيادتها. وتتمسك نيودلهي باتفاقية "شِملا" الموقعة عام 1972، التي تدعو إلى حل النزاع عبر مفاوضات ثنائية، دون تدخل خارجي. لكن الواقع على الأرض يُكذّب الخطابات الرسمية. فالإقليم يشهد بين الحين والآخر موجات عنف واحتجاجات شعبية، خصوصًا بعد الحوادث الدموية أو حملات القمع الواسعة، مما يعكس هشاشة الوضع واستحالة فرض تسوية من طرف واحد. في ظل استمرار عسكرة الحياة اليومية وتراكم مشاعر الإحباط لدى السكان، تتغذى دوائر العنف والتطرف، ما يجعل من أي تهدئة دائمة أمرًا بالغ الصعوبة. لا تقتصر تداعيات النزاع في كشمير على الإقليم نفسه، بل تمتد لتشمل مجمل جنوب آسيا، بما في ذلك التوازنات الاستراتيجية بين الهند والصين، والنزاعات الحدودية المعقدة، فضلًا عن سباق التسلح الذي يهدد استقرار المنطقة. وتزداد المخاوف من تفجر الوضع في ظل صعود التيار القومي الهندوسي المتشدد داخل السلطة في نيودلهي، في مقابل تصاعد الخطاب التعبوي الإسلامي في باكستان، حيث تُستثمر القضية الكشميرية سياسيًا وشعبيًا كأداة لتوحيد الداخل وتحقيق مكاسب خارجية. إن استمرار هذا الوضع المتأزم في غياب تدخل دولي جاد، ينذر بتحوّل النزاع إلى مواجهة كارثية، خاصة في ظل امتلاك الهند وباكستان لترسانتين نوويتين. وقد أثبتت التجارب السابقة أن أي حادث صغير – سواء على خطوط التماس أو داخل كشمير – يمكن أن يشعل شرارة حرب مفتوحة، في ظل انعدام الثقة وغياب قنوات اتصال مستقرة بين الطرفين. فأزمة كشمير لم تعد مجرد خلاف على الحدود، بل تحوّلت إلى صراع تاريخي مركّب، تتداخل فيه العوامل الجغرافية والدينية والقومية، إلى جانب المصالح الإقليمية والدولية المتشابكة. وبينما يعيش ملايين الكشميريين في واقع الاحتلال والحرمان من حق تقرير المصير، يواصل المجتمع الدولي تجاهله لهذه القضية، التي قد تتحول في أي لحظة إلى شرارة لا يمكن احتواء تداعياتها. وهكذا فإن غياب حل عادل وشامل يضمن حقوق السكان الأصليين، ويضع حدًا للتدخلات الخارجية، سيبقي كشمير جرحًا مفتوحًا في قلب آسيا، ونقطة اشتعال دائمة قد تؤدي إلى حرب لا تملك المنطقة ولا العالم رفاهية خوضها.