وسط ضجيج الشعارات المرفوعة عن حقوق الإنسان والشرعية الدولية، تبقى الصحراء الغربية جرحاً مفتوحاً في قلب القارة الإفريقية، شاهدةً على عقود من التجاهل والتواطؤ الأممي مع آخر قضايا تصفية الاستعمار. إنها مأساة شعب حُرم من حقه المشروع في تقرير المصير، وفُرض عليه أن يعيش تحت احتلال مغربي غاشم يسعى إلى فرض أمر واقع بالقوة، مستنداً إلى صمت دولي مطبق، وتواطؤ قوى عالمية آثرت المصالح على المبادئ.
منذ أن انسحبت إسبانيا من الإقليم عام 1975، دخلت الصحراء الغربية في دوامة من التنازع السياسي، تحوّلت خلالها من ملفّ قانوني خاضع لرعاية أممية إلى ساحة اختبار حقيقي لمدى التزام النظام الدولي بمبادئه المعلنة. لقد بات واضحاً اليوم أن القضية الصحراوية لم تعد مجرّد نزاع إقليمي، بل معركة حقيقية على العدالة الدولية، على سيادة الشعوب، وعلى مصداقية المجتمع الدولي في التعامل مع قضايا الاستعمار والحرية وحقوق الإنسان.
اختبار للشرعية الدولية أم عبور إلى زمن الانحياز؟
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تم التوصل إلى خطة تسوية أممية–إفريقية تبنّاها مجلس الأمن، تقوم على وقف إطلاق النار وتنظيم استفتاء حرّ يتيح للشعب الصحراوي التعبير عن إرادته بحرية. غير أن هذه الخطة، وعلى الرغم من قبول طرفي النزاع بها، جبهة البوليساريو والمغرب، لم تُفعّل إلى اليوم بسبب العراقيل المغربية المتكررة، وتخاذل المجتمع الدولي في فرض مسار تسوية عادل.
وفي السنوات الأخيرة، أخذت بعض القوى الغربية، ومنها المملكة المتحدة، في تبني مواقف سياسية غامضة تميل إلى دعم الرؤية المغربية القائلة بما يُسمى "مقترح الحكم الذاتي". هذا المقترح، رغم تسويقه على أنه حلّ واقعي، يُعدّ، في جوهره، التفافاً على حق تقرير المصير الذي يكفله القانون الدولي، وشرعنةً ضمنية لاحتلالٍ قائم على القوة لا على التوافق.
بيان لندن الأخير، الصادر في إطار إعلان مشترك مع الرباط، جاء بمثابة خيبة أمل كبرى للدبلوماسية الصحراوية، رغم أنه لم يتضمن اعترافاً صريحاً بسيادة المغرب على الإقليم. فقد اختارت المملكة المتحدة أن تغلّب خطاب الواقعية السياسية على المبادئ، متجاهلة كون الصحراء الغربية لا تزال مُدرجة ضمن قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي في الأمم المتحدة منذ عام 1963، أي أنها لا تزال قانونياً تحت نظام تصفية الاستعمار.
جبهة البوليساريو ترد: الحكم الذاتي خدعة سياسية لتكريس الاحتلال
رداً على هذا الموقف البريطاني، عبّرت جبهة البوليساريو، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي، عن أسفها العميق لما اعتبرته تراجعاً عن الحياد البريطاني التقليدي. وأكدت أن "الحكم الذاتي" ليس سوى غطاء سياسي لتكريس الاحتلال غير المشروع، وتجاهل فاضح للحقوق الوطنية الثابتة للشعب الصحراوي.
وأشارت الجبهة، في بيان صادر عن وزارة العلاقات الخارجية الصحراوية، إلى أن كل المحاكم والمنظمات الدولية ذات الصلة، بما فيها محكمة العدل الدولية ومحكمة العدل الأوروبية، لم تعترف يوماً بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. بل شددت تلك الجهات القضائية على أن المغرب لا يملك أي شرعية قانونية على الإقليم، ما يعزّز من مشروعية مطالب الشعب الصحراوي ويُدين واقع الاحتلال.
ورغم استمرار هذا التجاهل الصارخ للشرعية الدولية، تُبقي جبهة البوليساريو باب الحوار مفتوحاً، معلنة استعدادها للانخراط في أي مسار سياسي يضمن العودة إلى خطة التسوية الأصلية، باعتبارها الإطار الوحيد المقبول لحل دائم يقوم على مبدأ تقرير المصير. فالشعب الصحراوي، برغم المعاناة والخذلان، لم يتخلّ يوماً عن خياره النضالي السلمي، مدفوعاً بإرادة لا تلين في سبيل نيل الحرية والاستقلال.
الواقع على الأرض.. قمعٌ ممنهج وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان
بعيداً عن لغة البيانات الدبلوماسية، يشهد الواقع في الأراضي الصحراوية المحتلة على مستوى آخر من التراجيديا: آلة قمع مغربية لا تهدأ، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان طالت العشرات من النشطاء الصحراويين الذين زُجّ بهم في سجون المملكة فقط لأنهم طالبوا بحقهم في تقرير المصير.
وقد سلّطت منظمات أوروبية، أبرزها حركة المنظمات الشيوعية في ألمانيا، الضوء على تلك الممارسات القمعية. ففي بيان تضامني شديد اللهجة، أدانت الحركة منع السلطات المغربية لـ "مسيرة الحرية" من دخول الأراضي المغربية بهدف زيارة المعتقلين الصحراويين، معتبرة أن هذا المنع يكشف عن خوف النظام المغربي من كشف حقيقة الانتهاكات المرتكبة داخل سجونه.
ويُذكر أن مسيرة الحرية انطلقت قبل أكثر من شهرين من فرنسا وإسبانيا، بمشاركة ناشطين ومتضامنين مع القضية الصحراوية، في محاولة سلمية لتسليط الضوء على أوضاع الأسرى السياسيين والمطالبة بإطلاق سراحهم. غير أن سلطات الرباط منعت الوفد من العبور إلى الأراضي المغربية، ما أثار موجة جديدة من الإدانات الدولية تجاه السياسات القمعية المعتمدة في الإقليم المحتل. وبحسب التقارير الصادرة عن الحركة الألمانية، يقبع حالياً أكثر من 32 معتقلاً صحراوياً في السجون المغربية، تعرّض العديد منهم للتعذيب الجسدي والنفسي، وبعضهم حُكم عليه بالسجن المؤبد في خرق فاضح لكافة المواثيق الدولية الخاصة بحماية حقوق الإنسان.
رسالة منبرية للعالم: لا للصفقات.. نعم للعدالة
إن ما يحدث اليوم في الصحراء الغربية يتجاوز حدود الصراع على أرض أو السيادة، ليتحول إلى امتحان أخلاقي ومعنوي للعالم بأسره. فإما أن يثبت النظام الدولي جدارته بالحفاظ على مبادئه، من خلال فرض احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، أو أن يواصل سياسة الكيل بمكيالين، ممّا يفرّغ منظومة القانون الدولي من مضمونها، ويحوّلها إلى أداة بيد الأقوياء.
من هذا المنطلق، فإن صمت المجتمع الدولي عن الانتهاكات المستمرة في الإقليم لا يمكن تبريره تحت أي ظرف. على العكس، إنه تواطؤ غير مباشر يطيل أمد معاناة الصحراويين، ويُرسل رسالة مفادها أن الاحتلال يمكن أن يُكافأ إن امتلك علاقات قوية مع بعض العواصم الكبرى.
وفي خضم هذا المشهد الملتبس، تظلّ الحقيقة ثابتة: لا سلام حقيقياً في الصحراء الغربية دون احترام إرادة الشعب الصحراوي. فالحل العادل والدائم لا يكمن في مقترحات مفروضة أو مبادرات تروّج لها قوى الاحتلال، بل في تمكين هذا الشعب من ممارسة حقه الأصيل في تقرير المصير، عبر استفتاء نزيه وشفّاف، يُشرف عليه المجتمع الدولي بكل نزاهة. إنها ليست فقط معركة سياسية أو نزاعاً جغرافياً، بل معركة بين منطق الاستعمار ومنطق الحرية. وكل من يتبنى موقف الحياد الزائف أو الانحياز للمحتل، إنما يقف في الجانب الخطأ من التاريخ.

