في مشهد أثار جدلا واسعا على منصات التواصل الاجتماعي، ذرف المستشار الألماني فريدريش ميرتس دموعا غزيرة خلال حفل إعادة افتتاح الكنيس اليهودي في ميونخ يوم الثلاثاء 16 سبتمبر 2025، بعد 87 عاما من تدميره على يد النازيين. وأكد ميرتس في كلمته أن حكومته ستخوض "حربا شاملة" ضد جميع أشكال ما أسماه "معاداة السامية"، مشدّدا على أن اليهود في ألمانيا يستحقون أن يعيشوا يوما بلا حراسة شرطية. وقد أثار هذا المشهد الذي أدّاه المستشار الألماني بطريقة بدت مبتذلة، موجة من التهكم والسخط في العالم العربي، حيث رأى نشطاء على مواقع التواصل أنها دموع "انتقائية" تستجدى رضا المؤسسة الصهيونية وتتجاهل دماء الفلسطينيين في غزة وتكشف ازدواجية المعايير الغربية.
منذ الحرب العالمية الثانية، حملت ألمانيا ما يُعرف بـ"عقدة الذنب" تجاه اليهود بسبب ما يُسمى بـ"المحرقة النازية". وتجسدت هذه العقدة في السياسات الداخلية التي جعلت معاداة السامية "خطا أحمر" في القانون والدستور والممارسات الأمنية، كما ظهرت بوضوح في السياسة الخارجية التي ارتبطت بدعم غير مشروط لـ"إسرائيل".
وبعد مرور أكثر من 8 عقود، ما تزال هذه الذاكرة تقيّد خيارات الحكومات الألمانية وتضعها أمام مأزق دائم: هل يواجه اليهود في ألمانيا خطرا حقيقيا يبرر هذا المستوى من الحماية، أم أن هذه السياسة تسعى في جوهرها لكسب رضا المؤسسة الصهيونية؟ وكيف تستطيع الحكومة الألمانية المزايدة على هذا المستوى من الدعم لـ"إسرائيل"، وإلى أي حد يعيقها ذلك خلال التعامل مع الجرائم التي ترتكبها في غزة؟
من الواضح أن الإجابة عن هذه الأسئلة أصبحت بلا جدوى في ظل حكومة تستعبدها عقدة تاريخية تجاه اليهود، تُصر على تقديمهم في صورة الضحايا الدائمين - بغض النظر عن الوقائع - لتبرر استمرار سياسات الإذعان والتماهي الكامل مع الرواية الصهيونية، حتى لو تعرضت برلين لانتقادات دولية حادة بسبب انتقائية ذاكرتها وتغاضيها المتعمد عن معاناة ضحايا آخرين، وتجاهلها المتعمّد لمعاناة ضحايا آخرين، سواء في الحاضر أو على مدار التاريخ.
وفي إطار هذه الانتقائية الجلية، جاءت دعوة السفارة الروسية في برلين– في الأسبوع الأول سبتمبر الجاري – مطالبة السلطات الألمانية بالاعتراف بـ"حصار لينينغراد" خلال الحرب العالمية الثانية بوصفه جريمة إبادة جماعية، مما يسلط الضوء مرة أخرى على ازدواجية المعايير وتفاوت المواقف الأخلاقية في التعامل مع مآسي التاريخ.
وأصدرت السفارة بيانا بمناسبة مرور أربعة وثمانين عاما على بدء الحصار قالت فيه: "في هذا التاريخ المأساوي ندعو الجانب الألماني مرة أخرى، وانطلاقا من مسؤوليته التاريخية الدائمة عن فظائع النظام النازي، إلى أن يعترف رسميا بحصار لينينغراد وغيره من جرائم الرايخ الثالث وأعوانه بأنها أعمال إبادة جماعية ضد شعوب الاتحاد السوفيتي". وطالبت السفارة السلطات الألمانية بدفع تعويضات لجميع ضحايا الحصار لا لليهود وحدهم. ويذكر أن حصار لينينغراد الذي بدأ في الثامن من سبتمبر عام 1941 واستمر قرابة تسعمئة يوم، أسفر عن مقتل أكثر من مليون شخص قبل أن يُكسر في جانفي 1943 ويُفك نهائيا في جانفي 1944.
وفي أكتوبر 2022 اعتبرت محكمة في مدينة بطرسبورغ الروسية أن الجرائم التي ارتكبها النازيون أثناء الحصار تمثل جريمة حرب وإبادة جماعية للشعب السوفيتي. ومع ذلك، لم تُبدِ برلين استعدادا للاعتراف بهذه المأساة على قدم المساواة مع المحرقة اليهودية، سواء في خطابها السياسي أو في سياساتها التعويضية. ويكشف هذا الموقف عن ازدواجية تاريخية تُعقّد عقدة ألمانيا أكثر، إذ تُظهرها انتقائية في الاعتراف بالمآسي وتفضيلها لضحايا بعينهم، وهو ما يعزز شعورا متزايدا بعدم العدالة.
من ميونخ إلى غزة.. تناقضات صارخة
بينما كان ميرتس يذرف دموعه في ميونخ، كانت منظمات حقوقية أوروبية تسير في مسار معاكس تماما، حيث طالبت بفتح تحقيق عاجل ضد قناص صهيوني من أصل ألماني شارك في عمليات قتل مدنيين في غزة. ففي التاسع عشر من سبتمبر، أعلن "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان" تقديمه التماسا رسميا إلى مكتب المدعي العام الألماني، مدعوما بأدلة مرئية تثبت تورط القناص "دانيال ج." - المولود في ميونخ - في عمليات قتل رجال عزّل خلال نوفمبر 2023.
ويكشف هذا الالتماس حجم التناقض الصارخ في الموقف الألماني؛ فالدولة تظهر حزما غير مسبوق في مواجهة أي تعبير قد يُفسر على أنه معاداة للسامية، بينما تتردد في نفس الوقت في محاسبة مواطنيها الذين يرتكبون جرائم حرب ضد الفلسطينيين. هذا التناقض يطرح سؤالا أخلاقيا جوهريا: هل ستظل ألمانيا أسيرة عقدتها التاريخية إلى درجة أن تُغلق عينيها عن المظالم المعاصرة؟
لا يقتصر هذا المأزق على السياسات الخارجية، بل يضرب أيضا عمق المشهد السياسي والاجتماعي في الداخل الألماني. ففي جويلية الماضي، شهدت مدينة فرانكفورت حادثة اعتداء على ثلاثة متظاهرين يهود خلال مخيم احتجاج يساري مناهض للحرب في غزة. ورغم أن الحادثة لم تُخلّف إصابات خطيرة، وصفت السلطات ما جرى بأنه يحمل "دلالات معادية للسامية".
اليسار الألماني يشارك بكثافة في الاحتجاجات المؤيدة لغزة، وأحيانا يتهمه خصومه بتجاوز الحد الفاصل بين انتقاد سياسات الإرهاب الصهيوني والتورط في ممارسات تحمل طابعا معاديا للدينة اليهودية. وتضع هذه الصورة اليسار تحت نيران الإعلام والسياسة الرسمية التي غالبا ما تساوي بين مناصرة فلسطين ومعاداة السامية أو تجعلها مرادفا لها.
اليمين الألماني يستخدم فزاعة "التطرف المعادي للسامية" ليبرر تشديد الإجراءات الأمنية وحماية الجاليات اليهودية، وفي الوقت نفسه يوظف الموقف لتعزيز صورته كمدافع عن الهوية الوطنية ومناهض لما يسميه "التطرف الإسلامي" و"اليسار الفوضوي"، وبذلك تتحول غزة إلى مرآة تكشف الانقسامات الداخلية في ألمانيا: يسار متهم بالمبالغة في نصرة الفلسطينيين، ويمين يستثمر الخوف من عودة معاداة السامية لتعزيز خطابه الأمني والسياسي.
ازدواجية المعايير في عيون العرب
لم يقرأ العرب دموع ميرتس في ميونخ باعتبارها تعبيرا إنسانيا خالصا، بل اعتبروها دليلا جديدا على انتقائية الغرب. ففي الوقت الذي تعبّئ فيه الدولة الألمانية كامل أجهزتها لمكافحة أي مظاهر توحي بعداء لليهود، يعيش الفلسطينيون تحت قصف يومي وحصار خانق من دون أن تتحرك برلين لوقف المأساة، بل تواصل على العكس دعم "إسرائيل" سياسيا ودبلوماسيا".
ويتغذى هذا الانطباع الشعبي من وقائع ملموسة: قناص ألماني يشارك في قتل مدنيين بغزة من دون محاسبة، احتجاجات يسارية تُقمع أو تُشوَّه صورتها باعتبارها معادية للسامية، ومشهد سياسي يوظف المحرقة كذريعة لتجاهل مأساة فلسطينية مستمرة منذ أكثر من خمسة وسبعين عاما.
تجد ألمانيا نفسها اليوم عالقة بين ماضٍ لا يزال يتكرر في مخيال ساستها وحاضر لا ترغب في مواجهته. فحماية اليهود داخل البلاد لا يليق تحويلها إلى غطاء سياسي يبرر إفلات "إسرائيل" من المساءلة الدولية ويزيد أزمتها الأخلاقية والسياسية عمقا.
ولا يقتصر إدراك هذا التناقض على العرب وحدهم، إذ تؤكد منظمات حقوقية أوروبية أن التزامات ألمانيا القانونية بموجب القانون الدولي تفرض عليها التحقيق في الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل"، خصوصا عندما يشارك أحد مواطنيها فيها. غير أن الإرث التاريخي يضع برلين أمام حسابات معقدة تجعل أي خطوة في هذا الاتجاه محفوفة بالمخاطر السياسية والإعلامية.
دموع ميرتس في ميونخ قد تعكس صدقا شخصيا في وجدانه، لكنها لا تمحو التناقض الصارخ في سياسات بلاده. فالعقدة التاريخية تجاه اليهود تجعل أي انتقاد لـ"إسرائيل" محاطا بشبهة "معاداة السامية"، بينما يواصل الفلسطينيون دفع ثمن ازدواجية المعايير. وبين يسار متهم بالمبالغة في نصرة غزة ويمين يوظف الخوف لحشد الأصوات، تعيش ألمانيا مأزقا أخلاقيا عميقا: كيف توفق بين مسؤوليتها التاريخية تجاه اليهود ومسؤوليتها الراهنة تجاه ضحايا غزة؟

