إذا كانت التجارب المحلية قد أثبتت أن الفكرة يمكن أن تجد طريقها إلى النور رغم الصعوبات، فإن الحاضنات تبقى المحكّ الحقيقي الذي تُختبر فيه الأفكار، وتُصقل فيه المهارات، وتتحول فيه الأحلام إلى مشاريع واقعية. من داخل هذه الفضاءات الحيوية، تتضح ملامح الطريق بين النظرية والتطبيق، وتُسمع الأصوات التي تعرف جيدًا معنى التحدي اليومي في رحلة التأسيس. ومن هذا المنطلق، يقدّم نجم الدين بوزيد، مدير حاضنة أعمال، مداخلة عملية "من التجربة الجزائرية… دروس من داخل الحاضنات"، يكشف فيها عن كواليس الممارسة الميدانية، وما يواجهه رواد الأعمال من عقباتٍ وفرصٍ، في سبيل تحويل الفكرة إلى منتجٍ يقتحم السوق ويصنع الفارق.

نجم الدين بوزيد - مدير حاضنة أعمال بالجزائر
يتحدث نجم الدين بوزيد، مدير حاضنة الأعمال business valley، في تصريحه لـ"الأيام نيوز"، عن التجربة الجزائرية في مجال الحاضنات من زاوية الممارسة اليومية، لا التنظير الأكاديمي، معتبرًا أن الحاضنات في الجزائر ما تزال في مرحلة البذور التي تبحث عن هوية واضحة بين الطموح والواقع. ويستعرض بوزيد من خلال تجربته العملية، أبرز التحديات التي تواجه هذه المنصات، بدءًا من البيروقراطية وضعف التمويل، وصولًا إلى غياب منطق السوق في التسيير، كما يروي قصةً مُلهِمة لفريقٍ استطاع أن يتحول من فكرة بسيطة إلى شركة ناشئة ناجحة داخل الحاضنة. ويرى أن تجاوز التحديات يتطلب تغييرًا في الفلسفة العامة نحو تمكين الحاضنات من لعب دورٍ استثماري حقيقي، مؤكدًا أن قيمتها لا تُقاس بالأموال التي تُمنح، وإنما بالخبرة، والعلاقات، والمرافقة التي تُقدَّم لتمنح الفكرة فرصة الحياة والنمو.
يرى نجم الدين بوزيد، أن التجربة الجزائرية في مجال الحاضنات ما تزال في مرحلة البذور، إذ لم تتحول بعد إلى منصات قوية قادرة على صناعة شركات ناشئة بمعايير عالمية، لكنها أيضًا ليست مجرّد نسخة بيروقراطية من الفكرة الأصلية. فالمشهد الحالي يعكس ملامح تجربة انتقالية تسعى إلى التوازن بين الطموح والواقع، بين الرغبة في احتضان الأفكار المبتكرة، والقيود الإدارية والاقتصادية التي تحدّ من انطلاقتها. ويؤكد بوزيد أن ما يحدث اليوم هو بداية لتجربة محلية تتلمّس طريقها وسط تحديات متشابكة، تحاول فيها المؤسسات تجاوز مرحلة “الهيكل الإداري” لتتحول إلى فضاءات إنتاج فعلي للابتكار.
ويُوضح أن ما يميز هذه المرحلة هو ظهور جيل من الشباب وجد لأول مرة فضاءً يُرافقه من الفكرة إلى النموذج الأولي، ويمنحه شعورًا بالانتماء إلى منظومةٍ تؤمن بقدراته. هذه الحاضنات فتحت أبوابها لعشرات المبتكرين الذين كانوا يفتقرون في السابق إلى الدعم والتأطير، فوفّرت لهم التدريب والمرافقة، وقرّبتهم من بيئة ريادة الأعمال. غير أن هذه النجاحات الصغيرة تبقى محدودة ما لم تُدعّم بآلياتٍ تمويلية واضحة، وبشبكات تسويقٍ حقيقية، إذ لا يكفي أن نزرع الفكرة في ذهن الشاب، بل يجب أن نهيئ لها السوق الذي تستقرّ فيه وتنمو من خلاله.
ويُبرز بوزيد أن التحدي الأكبر الذي تواجهه الحاضنات الجزائرية هو ضعف التمويل وغياب الآليات المرنة لتمويل المراحل الأولى من المشاريع، وهي المرحلة التي تحتاج فيها الفكرة إلى “الأوكسجين المالي” أكثر من أي وقتٍ آخر. فغياب رأس المال الجريء وندرة المستثمرين المغامرين يجعلان من رحلة التحوّل من النموذج الأولي إلى الشركة الناشئة عملية بطيئة وشاقة. كما أن محدودية السوق المحلية تعمّق من الأزمة، إذ تظل الكثير من المشاريع محصورة داخل المختبر أو النموذج التجريبي دون أن تجد مساحة حقيقية للتوسع أو التصدير.
ويُضيف أن البيروقراطية ما تزال تشكّل عبئًا على رواد الأعمال الشباب، خاصةً حين تتحوّل الإجراءات الإدارية من وسيلة ضبطٍ وتنظيم إلى حاجزٍ يعيق الإبداع. فبطء المعاملات، وتعدد الجهات المتدخّلة، وغموض بعض النصوص التنظيمية، تُسهم في إضعاف الحافز لدى المبتكرين وتُطيل من دورة حياة الفكرة قبل الوصول إلى السوق. لذلك، يرى بوزيد أن تجاوز هذه التحديات يتطلّب إصلاحًا عميقًا للمنظومة، وتكاملًا فعليًا بين الحاضنات والمؤسسات التمويلية والجامعات والقطاع الخاص، حتى تتحول الحاضنات إلى “مصانع أفكارٍ حقيقية” بدل أن تبقى مجرد مكاتب تأطيرٍ إداري.
من زائرٍ إلى شريكٍ ممول... قصة "خدمات" التي وُلدت في حاضنة
ويرى نجم الدين بوزيد، أن قصة فريق "خدمات" تمثل واحدة من أكثر النماذج إلهامًا في مسار الحاضنات الجزائرية، إذ تُجسّد بوضوح كيف يمكن لفكرة بسيطة أن تتحول إلى مشروعٍ رياديٍّ متكامل حين تتوفر البيئة الحاضنة والدعم المناسب. فالبداية كانت من تحدي "أوراس ميتاب"، الذي تزامن مع فعاليات باتنة إكسبو 2.0، حيث شارك الفريق لأول مرة بفكرةٍ ناشئة تهدف إلى تقديم حلولٍ خدمية متكاملة للمجتمع المحلي. ورغم تواضع الإمكانيات، استطاع الفريق أن يفرض نفسه في المنافسة، ويصل إلى المراتب الثلاث الأولى، في إنجازٍ فتح أمامه أبواب المرافقة المجانية داخل حاضنة بيزنس فالي. كانت تلك لحظة التحوّل الكبرى التي انتقل فيها الحلم من الخيال إلى التخطيط، ومن الفكرة إلى أولى خطوات التجسيد العملي.
ويضيف بوزيد أن المرحلة الثانية من مسار الفريق كانت حاسمة في رسم ملامح المشروع الريادي، فقد تطورت الفكرة داخل الحاضنة لتصبح نموذجًا أوليًا جاهزًا بالتعاون مع الشريك التقني. وفي باتنة إكسبو 3.0، عاد الفريق مجددًا، لكن هذه المرة بصفة عارضين، لا مشاركين، ليقدّموا منتجهم أمام الجمهور ويختبروا مدى قابلية السوق لاستيعاب فكرتهم. كانت التجربة بمثابة "الامتحان الحقيقي"، حيث جمعوا آراء المستخدمين الأوائل، واستفادوا منها لإجراء دراسة دقيقة للسوق وتحسين خصائص التطبيق. النجاح الميداني أعاد الثقة للفريق، وأثبت أن الفكرة التي بدأت بخطوطٍ بسيطة على ورقة، باتت اليوم مشروعًا قابلاً للحياة، مدعومًا بتجربةٍ ميدانية ومعطياتٍ واقعية.
ويُبرز بوزيد أن النقلة النوعية جاءت حين استطاع الفريق إقناع أحد المستثمرين بتمويل مشروعهم، وهو ما شكّل نقطة الانطلاق الحقيقية نحو الاحترافية. فقد أتاح التمويل إنشاء مقرٍ تجاري رسمي، وإطلاق التطبيق على نطاقٍ أوسع، ليُصبح مشروع "خدمات" واقعًا ملموسًا في السوق المحلي لولاية باتنة. التطبيق الذي يجمع بين البساطة والفعالية، استطاع في وقتٍ قصير جذب مئات العمال الفعليين، وتقديم أكثر من 45 خدمة مختلفة، ما جعله نموذجًا رائدًا في مجال الخدمات الإلكترونية المحلية، وفتح الباب أمام خططٍ طموحة للتوسع نحو العاصمة وقسنطينة خلال المرحلة القادمة.
ويختم بوزيد بالقول إن العودة إلى باتنة إكسبو 4.0 كانت لحظة رمزية تحمل الكثير من الدلالات، فالفريق الذي بدأ مسيرته كـ"زائرٍ بسيط" عاد هذه المرة بصفة شريكٍ ممولٍ للحدث الذي احتضن بدايته. هذه الرحلة التي مرّت بثلاث محطات أساسية — زائر، عارض، فشريك ممول — تُلخص فلسفة الحاضنات الحقيقية: تحويل الطموح إلى مشروع، والمبتكر إلى رائد أعمال، والفكرة إلى قصة نجاحٍ ترويها السوق.
حين تشتغل الحاضنات بمنطق السوق... لا بمنطق الملفات
كما يرى نجم الدين بوزيد، أن الفارق الجوهري بين الحاضنات في الجزائر ونظيراتها في الخارج يكمن في الفلسفة التي تُدار بها المنظومة، فبينما تشتغل الحاضنات العالمية بمنطق السوق والنتائج، لا تزال العديد من الحاضنات الجزائرية رهينة المنطق الإداري والشكلي. ففي التجارب الدولية، الحاضنة تُعامل كمؤسسة استثمارية هدفها خلق القيمة الاقتصادية وتحويل الأفكار إلى مشاريعٍ قابلة للتمويل والنمو، أما في الجزائر، فغالبًا ما يُنظر إليها كمرفقٍ عامٍّ يخضع للمعايير البيروقراطية التي تقيس الأداء بعدد الملفات والنشاطات بدل الأثر الملموس في السوق. هذه الفجوة في الرؤية هي التي تُفسّر بطء التحوّل من مرحلة التأطير إلى مرحلة الإنتاج.
ويُوضح بوزيد أن الحاضنات في الخارج تتحرك ضمن منظومةٍ متكاملة تحكمها المرونة والتكامل، فهي تمتلك شبكاتٍ واسعة من المستثمرين الجاهزين لتمويل المشاريع الواعدة، وتستفيد من قوانين محفزة للابتكار، وإجراءاتٍ سريعة تسمح للمشاريع بالانتقال من الفكرة إلى السوق دون عراقيل. هناك، تعتبر الشركة الناشئة “استثمارًا واعدًا”، يُقاس بما يخلقه من وظائف وما يحققه من قيمةٍ مضافة، لا “ملفًا إداريًا” يحتاج إلى الموافقة. المنطق السائد في هذه التجارب يقوم على دعم المغامرة، وتقدير المخاطرة، وتشجيع روح المبادرة، وهي العناصر التي تجعل من الحاضنة محركًا حقيقيًا للنمو الاقتصادي.
ويشير إلى أن الوضع في الجزائر مختلف، إذ ما تزال الحاضنة تُعامل في كثير من الحالات كهيكلٍ إداريٍّ يخضع لإجراءاتٍ جامدة، تُركّز على تسيير الملفات بدل صناعة المشاريع. في هذا الإطار، يُقاس النجاح بعدد الورشات المنظّمة، أو الملفات المفتوحة، أو الاجتماعات المنعقدة، بينما يُهمل المؤشر الأهم: كم مشروعًا تموّل؟ وكم شركة ناشئة خرجت إلى السوق وحققت مبيعات؟ هذه النظرة الشكلية تجعل الحاضنة أحيانًا أداة توثيق أكثر منها فضاءً للخلق، وتحدّ من قدرتها على لعب دورٍ فعّال في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي.
ويُشدّد بوزيد على أن التحوّل من "منطق الملفات" إلى "منطق السوق" هو الخطوة المفصلية التي تحتاجها المنظومة الجزائرية لتلتحق بالنماذج العالمية. فالحاضنة الناجحة تلك التي تُطلق الشركات وتفتح الأسواق وتخلق فرص العمل. ولتحقيق ذلك، يجب إعادة تعريف مفهوم الحاضنة، وتحريرها من القوالب الإدارية، ومنحها استقلالية في القرار والتمويل، مع تمكينها من بناء شراكات مع القطاع الخاص والمستثمرين. وحده هذا التكامل يمكن أن يحوّل الحاضنة من مؤسسة تتابع "الأنشطة" إلى منصةٍ تُنتج "النجاحات"، ومن فضاء إداري مغلق إلى ورشة حقيقية لريادة الأعمال.
حين تُعوّض الحاضنة غياب المال... برأس مالٍ من نوعٍ آخر
ويشير نجم الدين بوزيد، أن الحاضنة يمكن أن تكون بديلاً جزئيًا عن رأس المال في المراحل الأولى من المشروع، إذ لا تُقدّم الأموال بالمعنى التقليدي، لكنها توفر ما يعادلها من دعمٍ غير مالي يُمكّن الفكرة من العيش والنمو حتى تصل إلى مرحلةٍ تصبح فيها قادرة على جذب المستثمرين. فالمشاريع الناشئة في بداياتها لا تحتاج دائمًا إلى السيولة بقدر ما تحتاج إلى بيئةٍ آمنة تُقلّل من التكاليف والمخاطر، وتمنحها فرصة التعلّم، والتجريب، والاندماج في منظومة ريادة الأعمال. وهنا بالضبط تكمن القيمة الحقيقية للحاضنة: في قدرتها على أن تكون “رأس مالٍ غير نقدي” يُغذي المشروع بالخبرة والعلاقات والمعرفة.
ويُوضح بوزيد أن أول ما تقدمه الحاضنة هو الفضاء، إذ توفّر للشباب رواد الأعمال مكانًا للعمل المجاني أو شبه المجاني، مزوّدًا بالخدمات الأساسية، وهو ما يُخفّض بشكلٍ كبير من الأعباء المالية للمشاريع في بداياتها. فبدل أن يُنفق الريادي جزءًا كبيرًا من ميزانيته على الإيجار والتجهيز، يجد في الحاضنة بنية تحتية جاهزة للعمل، تسمح له بالتركيز على تطوير الفكرة بدل القلق على المصاريف. هذه الخطوة البسيطة تمنح المشروع هامش تنفّسٍ ضروري في فترةٍ حساسة، حيث كل دينار محسوب، وكل تأخيرٍ في الإقلاع قد يكون قاتلًا.
ويُضيف أن الحاضنة تُقدّم كذلك ما يُعرف بـ"رأس المال المعرفي"، وهو ما يتجسّد في التأطير المهني والاستشارات القانونية والتجارية، فضلًا عن التكوين المستمر في مجالات الإدارة، التسويق، ونمذجة الأعمال. فالمرافقة التي تُوفّرها الحاضنة تُعدّ استثمارًا غير مباشر في قدرات صاحب المشروع، وتُجنّبه الوقوع في أخطاء مكلفة ماليًا وزمنيًا. ومع مرور الوقت، يصبح هذا التأطير هو الفارق بين مشروعٍ ينهار في أول اختبارٍ واقعي، وآخرٍ يواصل طريقه بثقةٍ نحو السوق.
ويؤكد بوزيد أن الحاضنة لا تعمل في عزلة، بل تلعب دور الوسيط النشط بين رواد الأعمال ومصادر التمويل، من خلال الربط المباشر بالمستثمرين أو مؤسسات الدعم المالي، وبناء شبكة علاقاتٍ واسعة تُعتبر في حد ذاتها شكلاً من أشكال رأس المال. هذه الشبكة، التي تضم خبراء ومستشارين وممولين، تفتح أمام صاحب المشروع فرصًا جديدة، وتُعزز قدرته على الوصول إلى التمويل في المراحل التالية. فالحاضنة لا تُغني عن رأس المال بشكلٍ دائم، لكنها تُوفّر الأرضية التي تُعوّض غيابه مؤقتًا، وتُجهّز المشروع ليكون أكثر إقناعًا وجاذبية للمستثمر حين يحين الوقت.
من هو نجم الدين بوزيد؟
نجم الدين بوزيد، مدير حاضنة الأعمال Business Valley، يُعدّ أحد أبرز الفاعلين في مجال دعم ريادة الأعمال بالجزائر. راكم خبرة ميدانية واسعة من خلال مرافقة عشرات المشاريع الناشئة منذ مراحلها الأولى، مؤمنًا بأن الحاضنة ليست مكتبًا إداريًا، بل فضاء يُحوّل الأفكار إلى مؤسسات منتجة. يجمع بين الرؤية الواقعية والفكر التطبيقي، ويحرص على بناء بيئة حاضنة تشجع الابتكار وتربط الشباب بروّاد التمويل والمستثمرين، في مسعى لجعل الحاضنات رافعة حقيقية للاقتصاد الجديد القائم على المعرفة والمبادرة.

