بين أروقة المعارض العالمية وأضواء الفعاليات المحلية، تتجسد صورة "جزائر التكامل" جامعةً بين الإرث الثقافي العميق والابتكارات التكنولوجية والطموح الاقتصادي المشروع. فمن الجناح الجزائري في أكسبو 2025 أوساكا اليابانية، حيث استمتع الزوار بلوحات فنية تعكس قوة التراث الوطني ووهجه، ثم المشاركة الجزائرية الأولى في صالون السياحة الدولي بإيطاليا، إلى ناباك 2025 بوهران، الذي شهد عرض حلول رقمية وطاقوية مبتكرة تعزز مسار التحول الاقتصادي المستدام، مرورا بالتحضيرات المكثفة للطبعة الـ33 من معرض الإنتاج الجزائري بالعاصمة، الذي يجمع المؤسسات العمومية والخاصة والحرفيين والشركات الناشئة على منصة واحدة لعرض منتجاتها وخدماتها. وفي هذا المشهد المتكامل، تتجسد حقيقة مفادها أن: التنمية الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية ليست مجالات متفرقة، بل ركائز متداخلة تشكل معا هويتها الحديثة على المستويين المحلي والدولي.
في هذا الإطار، برز الجناح الجزائري في المعرض العالمي أكسبو 2025 في أوساكا باليابان كنافذة ثقافية وسياحية مهمة، حيث أتيحت الفرصة للزوار للتعرف على تراث الجزائر الغني من خلال لوحات فنية متنوعة وعروض موسيقية ومسرحية تمثل مختلف مناطق البلاد. وشهد أسبوع الترويج لوجهة الجزائر مشاركة واسعة من الديوان الوطني للسياحة والأسفار، والوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار، وغرفة الحرف والصناعة التقليدية لولاية الجزائر، بالإضافة إلى فرق فنية مثل فرقة "سيروكو" التي جسدت التراث القبائلي.
وقد أسهمت هذه المبادرة في تعزيز صورة الجزائر عالميا كمقصد سياحي وثقافي متنوع، مع تسليط الضوء على إمكانيات الاستثمار في القطاعات الثقافية والسياحية. واستمرت فعاليات الأسبوع من 2 إلى 8 أكتوبر، في حين سيختتم الجناح في 13 أكتوبر، ما أعطى الزوار فترة كافية للاطلاع على الغنى الثقافي والتاريخي للبلاد.
في جانب آخر من خارطة التطوير الوطني، شكلت التظاهرات الاقتصادية والمهنية جزءا لا يقل أهمية، حيث عرضت المؤسسة الوطنية للصناعات الإلكترونية لسيدي بلعباس خلال مشاركتها في ناباك 2025 بوهران، حلولا رقمية وطاقوية مبتكرة. وقد جاءت هذه المشاركة ضمن الطبعة الـ13 لمعرض ومؤتمر إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط للطاقة والهيدروجين، الذي يعتبر من أبرز التظاهرات الاقتصادية في القارة.
وقدمت المؤسسة باقة من الخدمات والحلول التقنية، تشمل الإدماج الإلكتروني وأنظمة الطاقة الشمسية والصيانة الإلكترونية والمعايرة والتقييس، بالإضافة إلى أنظمة الأمن والحماية الذكية، ما يعكس توجه الجزائر نحو الرقمنة والتحول الطاقوي. وأكد الرئيس المدير العام للمؤسسة أن هذه المشاركة تأتي ضمن استراتيجية أوسع لدعم التحول الرقمي والطاقوي، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الفاعلين المحليين والدوليين، بما يسهم في خلق قيمة مضافة ضمن قطاع الصناعات التكنولوجية والطاقة المتجددة.
جولات افتراضية ثلاثية الأبعاد
وفي سياق الترويج السياحي، تشارك الجزائر لأول مرة في فعاليات صالون السياحة الدولي بمدينة ريميني الإيطالية، الذي يقام من 8 إلى 10 أكتوبر، بهدف التعريف بالمقومات السياحية والثقافية المتنوعة للبلاد وتعزيز فرص التعاون مع الفاعلين الدوليين، خصوصا في السوق الأوروبية. وقد خصص الديوان الوطني للسياحة جناحا مصمما بعناية ليعكس الأصالة الثقافية والتاريخية للجزائر، مع التركيز على البعد الصحراوي والثقافي كرمز مميز للهوية الوطنية.
وسيتيح الجناح للزوار فرصة القيام بجولات افتراضية ثلاثية الأبعاد لبعض الوجهات السياحية المميزة، إلى جانب عرض برامج سياحية بالتعاون مع وكالات السفر الإيطالية، وتعريف الجمهور بالمواقع الأثرية الرومانية التي تحتل الجزائر فيها المرتبة الثانية عالميا بعد إيطاليا. كما ستتمكن الوفود والزوار من الاطلاع على منتجات السياحة المتنوعة والتفاعل مع المتعاملين السياحيين الجزائريين الذين سيعقدون لقاءات عمل ثنائية مع نظرائهم الإيطاليين لتعزيز الشراكات المهنية.
ويشارك في الجناح أيضا حرفيون وفرقة موسيقية لتقديم عروض تراثية وموسيقية، كما تم برمجة لقاءات مع وسائل الإعلام الدولية لتسليط الضوء على قدرات الجزائر السياحية الغنية والمتنوعة. إضافة إلى ذلك، يشمل البرنامج ندوات تعريفية وحلقات نقاشية حول الاستثمار السياحي، وورش عمل لتبادل الخبرات المهنية، ما يعكس استراتيجية متكاملة لترقية المقصد السياحي الجزائري على المستويين الإقليمي والدولي، ويؤكد على الأهمية المتزايدة للترويج السياحي كرافد اقتصادي وثقافي رئيسي.
تجربة مباشرة للمنتجين والمستهلكين
على المستوى الوطني، يمثل معرض الإنتاج الجزائري، الذي ستقام دورته الـ33 من 18 إلى 27 ديسمبر المقبل في الجزائر العاصمة، منصة محورية لتعزيز الإنتاج المحلي والترويج له. ويجمع المعرض مؤسسات عمومية وخاصة، شركات ناشئة، مؤسسات صغيرة ومتوسطة، بالإضافة إلى الحرفيين وأصحاب الصناعات التقليدية، ما يجعله مناسبة للتفاعل المباشر بين المنتجين والمستهلكين، وإبرام الشراكات وتبادل الخبرات.
كما يسلط المعرض الضوء على الابتكار وريادة الأعمال والتكنولوجيا الحديثة، مع الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الحرفيين لعرض منتجاتهم أمام جمهور واسع. ويمثل هذا الحدث الاقتصادي فرصة حقيقية لترسيخ ثقافة الاستهلاك المحلي وتعزيز علامة "صنع في الجزائر" كرمز للجودة والتميز.
بالجمع بين كل هذه الفعاليات، يمكن ملاحظة تلاقي أهدافها في محور أساسي واحد: الربط بين الثقافة والسياحة والاقتصاد والتكنولوجيا. فمن جهة، يعكس الجناح الجزائري في أكسبو 2025 الأبعاد الثقافية والتراثية، ثم مشاركة الجزائر بوجهها السياحي في إيطاليا، ومن جهة أخرى، تبرز مشاركات المؤسسات الصناعية في ناباك 2025 بوهران جهود الدولة في مجال الرقمنة والطاقة المستدامة، بينما يوفر معرض الإنتاج الجزائري مساحة لتجربة هذه الابتكارات على أرض الواقع، والتفاعل المباشر مع المنتجين والمستهلكين، بما يعزز الاقتصاد الوطني ويحفز روح الابتكار والاستثمار.
هذا الترابط العميق بين الثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا يعكس رؤية شاملة وطموحة للتنمية المستدامة في الجزائر، حيث لم تعد هذه المجالات تعمل بمعزل عن بعضها البعض، بل تشكل معا ركائز أساسية لهوية البلاد الحديثة ومصدرا لإبداعها الاقتصادي والاجتماعي. كما تؤكد هذه المعارض أن الاستثمار في الثقافة والتراث ليس مجرد نشاط ثقافي فحسب، بل يمكن أن يتحول إلى محرك اقتصادي قوي يسهم في النمو وخلق فرص العمل، وأن الابتكار التكنولوجي لا يقتصر على الصناعة أو الحلول التقنية، بل يمتد ليعزز التجربة السياحية والخدماتية ويربط الإنتاج المحلي بالأسواق العالمية بطريقة مبتكرة ومستدامة.
وفي إطار هذه الفلسفة التي تقدم نموذج "جزائر التكامل"، تبدو هذه التظاهرات المتنوعة بمثابة خارطة طريق استراتيجية تهدف إلى تحقيق التوازن بين الداخل والخارج، بين الماضي والحاضر، وبين الحفاظ على التراث وتعزيز الابتكار، وبين تطوير الاقتصاد الوطني والانفتاح على الأسواق الدولية. وهي رؤية متكاملة تجعل من الفعاليات الثقافية والصناعية والتكنولوجية أدوات قوية لتطوير المجتمع، وتعزيز مكانة الجزائر إقليميا ودوليا، وإبرازها كمثال على التلاقي بين الأصالة والحداثة في عصر العولمة.

