تبدو أمريكا اليوم كآلة عملاقة توقفت تروسها عن الدوران، لا بفعل عطل تقني، بل بسبب انقسام عميق ينهش تماسكها من الداخل. فالإغلاق الحكومي الحالي – وقد دخل أسبوعه الثاني - لم يُعطّل مؤسسات الدولة فحسب، بل عطّل الفكرة ذاتها التي قامت عليها التجربة الأمريكية: إدارة الاختلاف دون أن يتحوّل إلى شلل كامل. وهكذا تجد الإمبراطورية نفسها أمام اختبار صعب لصلابتها وقدرتها على الحفاظ على تماسكها في مواجهة هشاشتها المتزايدة.
دخل الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة الأمريكية، أمس الأربعاء، أسبوعه الثاني، في ظل غياب التمويل الاتحادي وتعمّق الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين داخل الكونغرس، ليتحوّل من أزمة تشريعية إلى اختبار حقيقي لقدرة أكبر اقتصاد في العالم على إدارة خلافاته الداخلية دون أن يدفع ثمنها المواطن الأمريكي والعالم بأسره. فمنذ فشل تمرير مشروع قانون التمويل المؤقت في مجلس الشيوخ، استيقظت واشنطن يوم الأربعاء 1 أكتوبر على أول إغلاق حكومي منذ سبع سنوات، عطّل مؤسسات الدولة وأوقف رواتب مئات الآلاف من الموظفين الفدراليين، وهدّد بحرمان 1.3 مليون عسكري من رواتبهم إذا لم يُحسم الخلاف التشريعي قبل منتصف الشهر الجاري. ومع استمرار المواجهة الحزبية بين الجمهوريين الذين يسيطرون على الكونغرس والديمقراطيين المطالبين بتعديلات أوسع على تمويل الرعاية الصحية والبرامج الاجتماعية، تتصاعد الخسائر الاقتصادية بوتيرة مقلقة، إذ تُقدّر تكلفة الإغلاق بأكثر من 15 مليار دولار أسبوعيا، وتزداد المخاوف من أن تمتد تداعياته إلى الأسواق العالمية، مع تراجع ثقة المستثمرين وارتفاع أسعار الذهب كملاذ آمن. ورغم أن تاريخ الولايات المتحدة شهد أكثر من عشرين إغلاقا حكوميا منذ سبعينيات القرن الماضي، فإن الأزمة الحالية تبدو أعمق من سابقاتها، لكونها تتقاطع مع ظرف اقتصادي دقيق وانقسام سياسي حاد يهدد بتقويض الاستقرار المؤسسي الفيدرالي. وبينما تتبادل الأحزاب الاتهامات وتتعثر جلسات التفاوض، يبقى السؤال الأهم مطروحا أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي: ما هو الإغلاق الحكومي تحديدا؟ ولماذا يتكرر في بلد يُعد رمزا للانضباط المالي والإداري؟
تدخل الولايات المتحدة مرحلة جديدة من الشلل الإداري والسياسي مع دخول الإغلاق الحكومي أسبوعه الثاني دون أي مؤشرات على انفراج قريب. ورغم أن هذه الظاهرة ليست غريبة على واشنطن، فإنها اليوم أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، بسبب تشابك الخلافات الحزبية الحادة وتعدد انعكاساتها الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. فالأزمة الراهنة لا تتعلق بمجرد فشل تشريعي في تمرير قانون التمويل، بل تعكس أزمة حكم أعمق تتمثل في انعدام الحوار الفعّال بين الإدارة الجمهورية والكتلة الديمقراطية داخل الكونغرس، بعدما أُغلقت الأبواب أمام أي مفاوضات حقيقية.
وبينما يغرق مجلس الشيوخ في دوامة تصويتات فاشلة لإقرار خطط مؤقتة لإعادة فتح الحكومة، يعيش مجلس النواب حالة من الجمود الكامل، وسط تبادل اتهامات حاد بين الحزبين، يحمّل فيه كل طرف الآخر مسؤولية الشلل القائم. ويُفاقم من الأزمة تمسّك الطرفين بمواقفهما دون أي استعداد لتقديم تنازلات. فالجمهوريون يتهمون الديمقراطيين بابتزاز سياسي من خلال ربط تمرير الميزانية بزيادة تمويل برامج الرعاية الصحية، في حين يرى الديمقراطيون أن البيت الأبيض يستخدم الإغلاق كوسيلة ضغط لتحقيق مكاسب مالية تخدم الشركات الكبرى على حساب الطبقات المتوسطة والفقيرة.
أما الرئيس دونالد ترامب، فقد اختار أسلوب المواجهة المفتوحة، ملوّحا بإجراءات غير مسبوقة تشمل تسريحا جماعيا للموظفين الفيدراليين وتعليق صرف الرواتب المتأخرة، في محاولة واضحة لدفع الكونغرس نحو الرضوخ لخطته المالية. وقد أثارت هذه التهديدات موجة انتقادات داخلية حادة، خصوصا بعد تسريب مذكرة رسمية من البيت الأبيض تُلمّح إلى أن دفع الأجور المتأخرة «لن يتم إلا بتصريح من الكونغرس»، وهو ما اعتُبر خرقا للأعراف القانونية المتوارثة في تاريخ الإدارة الأمريكية.
تتزامن هذه التطورات مع استقطاب سياسي غير مسبوق منذ عقود، حوّل كل تصويت في الكونغرس إلى معركة رمزية تتجاوز حدود الميزانية لتصبح اختبارا للإرادة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. وبذلك، لم يعد الإغلاق مجرد خلاف مالي، بل تحوّل إلى صراع مؤسساتي على النفوذ، يسعى فيه كل طرف لإثبات من يملك القرار في توجيه الدولة وتحديد أولوياتها. والنتيجة هي شلل يهدد الاقتصاد الوطني ويؤثر على مكانة الولايات المتحدة في الداخل والخارج.
ومع دخول الاغلاق أسبوعه الثاني فقط، بدأ الإغلاق يترك بصماته بوضوح على مفاصل الحياة الأمريكية:
- شلل إداري واسع: توقّف آلاف الإدارات الفدرالية عن العمل، وأُجبر أكثر من 750 ألف موظف مدني على إجازة إجبارية دون راتب، بينما يواصل آخرون العمل دون أجر في قطاعات الأمن والصحة والمطارات.
- تأثيرات عسكرية مباشرة: أكثر من 1.3 مليون عسكري أمريكي لم يتقاضوا رواتبهم منذ بداية الشهر، رغم استمرارهم في الخدمة باعتبارهم عنصرا أساسيا للأمن القومي.
- خسائر اقتصادية هائلة: تقدر إدارة البيت الأبيض الخسائر الأسبوعية بنحو 15 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي، مع تراجع الإنفاق الاستهلاكي وتزايد البطالة.
- اضطراب الأسواق: رغم أن البورصات بقيت مستقرة نسبيا، فإن الدولار ارتفع كملاذ آمن بفعل القلق العالمي من امتداد الأزمة، فيما ارتفعت أسعار الذهب والفضة بشكل ملحوظ.
- انعكاسات اجتماعية قاسية: تعطّلت برامج التغذية والتعليم والرعاية للأطفال، وتوقفت آلاف الخدمات الإدارية اليومية مثل إصدار جوازات السفر أو منح القروض الدراسية.
- تأثيرات خارجية: اهتزت الثقة العالمية في الاقتصاد الأمريكي، وبدأت أصوات في الخارج تدعو إلى تنويع الاحتياطي النقدي العالمي بعيدا عن الدولار، تحسبا لأي تدهور طويل الأمد.
الأسباب العامة وراء الإغلاق
جاء الإغلاق الحكومي نتيجة مباشرة لتقاطع أزمات سياسية واقتصادية متراكمة منذ بداية السنة المالية الجديدة في الأول من أكتوبر، حين فشل الحزبان الجمهوري والديمقراطي في التوصل إلى اتفاق بشأن قانون تمويل الحكومة الفيدرالية. وجوهر الخلاف يتمثل في اختلاف الأولويات بين الطرفين داخل الكونغرس.
فالجمهوريون يتمسكون بتمديد قصير الأمد للإنفاق بالمستويات الحالية دون أي زيادات أو التزامات جديدة، انسجاما مع توجّه الرئيس ترامب الرامي إلى تقليص حجم الحكومة وخفض النفقات العامة. أما الديمقراطيون، فيطالبون بزيادة مخصصات الرعاية الصحية والبرامج الاجتماعية، وعلى رأسها التأمين الصحي والإعفاءات الضريبية للفئات محدودة الدخل، معتبرين أن أي تخفيض في هذه البرامج يمثل مساسا مباشرا بالمواطن الأمريكي العادي وبشبكة الأمان الاجتماعي التي يعتمد عليها ملايين الأسر.
وفي ظل هذا التباين، تعطلت كل محاولات التوافق. الجمهوريون اتهموا الديمقراطيين باستغلال رفض الميزانية كورقة ابتزاز سياسي، بينما رأى الديمقراطيون أن خصومهم يستخدمون الإغلاق أداة ضغط لتحقيق أجندة اقتصادية محافظة تخدم الشركات الكبرى على حساب الفئات الهشة. وهكذا، تحوّل الخلاف حول تمويل برامج الرعاية الصحية إلى الشرارة المباشرة للأزمة، خصوصا بعد فشل مجلس الشيوخ في تمرير مشروع قانون التمويل بأغلبية الستين صوتا المطلوبة دستوريا، رغم حصوله على تأييد 55 عضوا. ومع سقوط المشروع، دخلت مؤسسات الدولة في مأزق تمويلي فعلي أدى إلى تعطيلها، لتبدأ فصول الإغلاق الذي يزداد كلفة كل يوم.
كيف حدث الإغلاق؟
يحدث الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة حين يفشل الكونغرس في تمرير قوانين الاعتمادات المالية السنوية أو يرفض الرئيس توقيعها قبل بدء السنة المالية الجديدة في الأول من أكتوبر. وبما أن المؤسسات الفيدرالية لا تستطيع إنفاق أي أموال دون تفويض قانوني، فإنها تُجبر على تعليق أنشطتها غير الأساسية والبقاء مغلقة إلى حين صدور قانون تمويل جديد.
في الأزمة الحالية، ورغم أن الجمهوريين يسيطرون على مجلسَي الكونغرس، فإنهم لم يتمكنوا من حشد الأصوات المطلوبة لتمرير مشروع التمويل المؤقت في مجلس الشيوخ، الذي يحتاج إلى أغلبية 60 صوتا من أصل 100. ومع تصلّب مواقف الحزبين، فشل التصويت النهائي قبل منتصف ليل الثلاثاء، ما أدى تلقائيا إلى دخول الإغلاق حيّز التنفيذ وفقا لقانون مكافحة العجز المالي الذي يمنع أي هيئة فيدرالية من العمل دون اعتماد مالي مصادق عليه.
وبموجب القانون ذاته، تُستثنى فقط المؤسسات التي تقدم خدمات أساسية، مثل الجيش والشرطة ومراقبة الطيران والمستشفيات الحكومية، بينما يُحال الموظفون غير الأساسيين إلى إجازة إجبارية غير مدفوعة الأجر، في ما يشبه تجميدا شبه كامل لنشاط الدولة. وتشير التقديرات إلى أن مئات آلاف الموظفين الفيدراليين توقفوا عن العمل، فيما تتعطل آلاف الخدمات العامة في الولايات المختلفة.
ما هو الإغلاق الحكومي؟
الإغلاق الحكومي الفيدرالي يعني توقفا جزئيا أو كليا في أنشطة المؤسسات والخدمات الحكومية غير الأساسية نتيجة غياب التمويل القانوني اللازم لاستمرارها. وهو أحد أبرز أدوات الصراع السياسي في النظام الأمريكي، حيث يستخدمه كل طرف كورقة ضغط لتحقيق أهدافه.
ويتضمن الإغلاق عادة جملة من الإجراءات المتتابعة:
- وقف الأنشطة التي لا ترتبط بالأمن القومي أو الصحة العامة أو النظام العام.
- إحالة الموظفين غير الأساسيين إلى إجازة دون راتب.
- تأجيل صرف الرواتب والمستحقات المالية لحين إقرار التمويل.
- تجميد بعض الخدمات العامة، مثل التعليم والسياحة وبرامج المساعدات الفيدرالية.
أما القطاعات الحيوية - كالدفاع، والشرطة، والرعاية الطبية العاجلة - فتواصل عملها بالحد الأدنى من الموارد لضمان استمرارية الدولة، فيما تبقى مؤسسات مثل البنك الفيدرالي وخدمة البريد خارج تأثير الإغلاق لأنها تُموّل من مواردها الخاصة.
الإغلاق الحالي يُعتبر من بين الأشد تأثيرا منذ إغلاق عام 2019، ليس فقط بسبب مدته، بل بسبب الظروف السياسية المحيطة به. فهو يكشف عمق الانقسام داخل المؤسسة السياسية الأمريكية، ويعكس حالة التآكل التي أصابت الثقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. كما أنه يثير مخاوف اقتصادية حقيقية، إذ إن كل أسبوع من الإغلاق يعني خسائر بمليارات الدولارات من الناتج المحلي، فضلا عن اضطراب الأسواق المالية وتراجع ثقة المستثمرين في استقرار الاقتصاد الأمريكي.
وإضافة إلى البعد الاقتصادي، يتخذ الإغلاق الحالي بعدا رمزيا يمس صورة الولايات المتحدة كدولة مؤسسات مستقرة. فتعطّل الحكومة الفيدرالية في أقوى اقتصاد في العالم يبعث برسائل سلبية إلى الخارج، خصوصا في ظل منافسة شرسة مع قوى كبرى مثل الصين وروسيا تسعى لاستثمار أي ارتباك سياسي أمريكي لإبراز نموذجها كبديل.
إن الأزمة الراهنة تكشف حدود النظام السياسي الأمريكي في إدارة الخلافات الداخلية حين تغيب الروح التوافقية، وتُبرز كيف تحوّل العمل الحكومي إلى رهينة صراعات حزبية ومناورات انتخابية. ومع غياب أي مؤشرات على تسوية وشيكة، تبقى مؤسسات الدولة في حالة انتظار مفتوح لاتفاق سياسي يبدو أن شروطه لم تنضج بعد، بينما تتزايد الخسائر يوما بعد يوم، وتتآكل الثقة في قدرة واشنطن على تجاوز أزماتها بنفس القدر الذي طالما قدّمت به نفسها نموذجا للحكم الرشيد والاستقرار المؤسسي.
من ميزانية فورد إلى جدار ترامب.. نصف قرن من الإغلاقات
منذ أول إغلاق حكومي في الولايات المتحدة عام 1976، حين اصطدم الرئيس جيرالد فورد بالكونغرس حول ميزانية وزارة العمل، أصبحت هذه الآلية واحدة من أبرز مظاهر الانقسام في النظام السياسي الأمريكي. ففي العقود اللاحقة، تحولت الأزمات المالية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية من خلافات حول تفاصيل الإنفاق إلى معارك هوية سياسية، تعبّر عن التوتر الدائم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول دور الدولة وحجمها، وحدود التدخل الفدرالي في الاقتصاد والمجتمع.
شهدت الثمانينيات أولى موجات الإغلاق المتكررة في عهد رونالد ريغان، حين استخدم الديمقراطيون السيطرة على مجلس النواب للحد من سياساته التقشفية. ثم جاءت التسعينيات لتُرسّخ الظاهرة بشكل أعمق، خاصة خلال أزمة 1995–1996 بين الرئيس بيل كلينتون ورئيس مجلس النواب نيوت غينغريتش، التي شلّت الحكومة لأكثر من عشرين يوما، وكلفت الاقتصاد مليارات الدولارات. كان ذلك الإغلاق بمثابة نقطة تحوّل: إذ أثبت أن تعطيل مؤسسات الدولة يمكن أن يصبح وسيلة فعالة للضغط السياسي، حتى لو أضر بالمصلحة العامة.
في الألفية الجديدة، خفّت حدة الإغلاقات مؤقتا بفضل النمو الاقتصادي والوفاق النسبي بعد أحداث 11 سبتمبر، لكنّ الانقسام عاد بقوة بعد الأزمة المالية عام 2008 وصعود حركة "حزب الشاي" داخل الحزب الجمهوري، التي جعلت من مواجهة الإنفاق الفدرالي شعارا أيديولوجيا. وفي 2013، شهدت الولايات المتحدة أحد أطول الإغلاقات بسبب معارضة الجمهوريين لبرنامج "أوباماكير"، ما كشف عمق الشرخ بين رؤية تؤمن بدولة الرعاية وأخرى ترفضها باعتبارها عبئا على دافعي الضرائب.
ثم جاء الإغلاق الأطول في تاريخ البلاد بين 2018 و2019 خلال رئاسة دونالد ترامب، واستمر 35 يوما، بعدما رفض الكونغرس تمويل الجدار الحدودي مع المكسيك. لم يكن ذلك الخلاف ماليا بقدر ما كان رمزا لصدام سياسي وثقافي حول الهجرة والهوية، ما جعل الإغلاق أداة لتغذية الاستقطاب الشعبي بدل أن يكون وسيلة تفاوض. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد الإغلاق مجرّد عرض لأزمة مالية، بل مؤشّرا على عطب هيكلي في النظام السياسي الأمريكي، حيث لم تعد المؤسسات قادرة على بناء توافقات أساسية حول الميزانية والإنفاق العام.
الإغلاق الراهن عام 2025 يأتي في هذا السياق المتراكم، معبّرا عن انسداد سياسي أكثر مما هو خلاف تقني. فالانقسام لم يعد بين الحزبين فقط، بل داخل الحزب الجمهوري نفسه، بين جناح براغماتي وآخر متشدّد يرفض أي تسوية مع الديمقراطيين، ما يجعل تمرير الميزانية مهمة شبه مستحيلة. وقد تسربت مفاعيل الأزمة سريعا إلى عمق الحياة اليومية، فتحولت من أزمة إدارية في واشنطن إلى ارتجاج شامل في البنية الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، تاركة بصمات واضحة على تماسك الدولة وصورتها الدولية. وكل يوم إضافي من دون اتفاق سياسي يوسّع الفجوة بين مؤسسات الحكم ويضاعف الأضرار المباشرة وغير المباشرة التي تصيب الاقتصاد والمجتمع معا، في مشهد يبرز هشاشة التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
شلل إداري وجيش بلا رواتب
أول مظاهر التأثير ظهرت في القطاع الإداري الفدرالي الذي أصيب بشلل واسع، بعدما أُجبرت آلاف الإدارات على تعليق أعمالها نتيجة غياب التمويل القانوني اللازم لاستمرارها. أكثر من 750 ألف موظف مدني أُحيلوا إلى إجازات إجبارية دون أجر، فيما يواصل عشرات الآلاف العمل من دون مقابل مؤقتا في قطاعات الأمن والنقل والصحة، التزاما بقرارات "الخدمة الأساسية" التي تُستثنى عادة من الإغلاق. هذا التعطيل لا يقتصر على المكاتب الحكومية المركزية في واشنطن، بل يمتد إلى الوكالات الإقليمية والبلديات التي تعتمد على التمويل الفيدرالي لتسيير خدماتها اليومية، مثل إصدار جوازات السفر وتجديد رخص القيادة ومنح القروض التعليمية. ومع استمرار الإغلاق، تزداد طوابير الانتظار وتتراكم الملفات، ما يعني شللا بيروقراطيا يضعف ثقة المواطنين في مؤسسات دولتهم.
تداعيات الإغلاق تمتد إلى القطاع العسكري الذي يُعد أكثر حساسية، إذ لم يتقاضَ نحو 1.3 مليون جندي وضابط رواتبهم منذ بداية الشهر، رغم استمرارهم في الخدمة. وقد بدأت أصوات في الكونغرس تحذر من أن الإغلاق قد ينعكس على الجاهزية القتالية للقوات المسلحة في حال استمر لفترة طويلة، خصوصا مع تأخر صيانة المعدات ووقف عقود الإمداد اللوجستي.
وتكشف تقارير وزارة الدفاع أن بعض البرامج التدريبية أُلغيت بالفعل، وأن عمليات الصيانة الدورية للسفن والطائرات تأجلت نتيجة تجميد النفقات التشغيلية. ورغم أن وزارة الدفاع تستفيد من بعض الصلاحيات الاستثنائية لمواصلة مهامها الأساسية، فإن تآكل الروح المعنوية داخل صفوف العسكريين بفعل تأخر الأجور يُعد مؤشرا مقلقا على المدى البعيد، لاسيما في ظل وجود قوات أمريكية منتشرة في أكثر من 70 دولة.
على المستوى الاقتصادي العام، تشير التقديرات الأولية إلى خسائر أسبوعية تتجاوز 15 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أرقام كفيلة بتقليص معدل النمو السنوي بمقدار 0.2 إلى 0.3 نقطة مئوية إذا استمر الإغلاق حتى نهاية الشهر. هذه الخسائر لا تعود فقط إلى توقف الإنفاق الحكومي المباشر، بل تشمل أيضا تأثيرات ثانوية على سلاسل التوريد، وشركات المقاولات التي تعتمد على العقود الفيدرالية، والمؤسسات الصغيرة التي تقدم خدماتها للدوائر الحكومية. ومع غياب الأجور عن مئات الآلاف من الموظفين، ينخفض الاستهلاك المحلي وهو المحرك الأساسي للاقتصاد الأمريكي، ما ينعكس تباطؤا في الطلب الكلي وركودا في مبيعات التجزئة والإسكان.
ورغم أن الأسواق المالية أظهرت في البداية قدرا من الصمود النسبي، فإن مؤشرات التوتر بدأت تظهر تدريجيا. الدولار الأمريكي ارتفع بفعل توجه المستثمرين نحوه كملاذ آمن في فترات عدم اليقين، لكن هذا الارتفاع لم يُترجم ثقة فعلية في الاقتصاد، بل يعكس خوف الأسواق العالمية من امتداد الأزمة إلى النظام المالي الدولي. بالمقابل، شهدت أسعار الذهب والفضة ارتفاعا ملحوظا مع تزايد الإقبال على الأصول الملموسة، فيما بدأ بعض صناديق التحوط بتحويل استثماراتها إلى السندات الأوروبية والآسيوية الأكثر استقرارا. وإذا طال الإغلاق، فإن مؤسسات التصنيف الائتماني قد تعيد النظر في تقييم ديون الخزانة الأمريكية، وهو سيناريو سبق أن حدث عام 2011 حين خفّضت وكالة "ستاندرد أند بورز" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة لأول مرة في تاريخها، ما تسبب بهزة ثقة عالمية.
أما القطاع الاجتماعي، فهو الأكثر هشاشة في مواجهة تداعيات الإغلاق. آلاف العائلات منخفضة الدخل فقدت مؤقتا إمكانية الحصول على المساعدات الغذائية الشهرية بسبب تعليق برامج التغذية الفيدرالية. كذلك توقفت بعض برامج الرعاية للأطفال والتعليم المبكر مثل "Head Start" في عدد من الولايات، ما أجبر مئات العائلات على ترك أعمالها لرعاية أطفالها في المنازل. كما تراجعت قدرة المستشفيات الحكومية على تغطية نفقاتها التشغيلية، مما أثر على جودة الخدمات المقدمة للفئات غير المؤمنة صحيا. وتكشف تقارير منظمات المجتمع المدني أن الإغلاق يفاقم التفاوت الاجتماعي ويضرب بشدة الفئات الأكثر هشاشة، خصوصا في المناطق الريفية التي تعتمد على الدعم الفيدرالي في الغذاء والتعليم والصحة.
وتتجاوز تداعيات الأزمة حدود الداخل لتصل إلى المجال الخارجي. فغياب التمويل الحكومي يعني تجميد العديد من الأنشطة الدبلوماسية، وتأجيل سفر وفود رسمية إلى الخارج، ووقف المساعدات التنموية لبعض الدول الحليفة. وقد بدأت بعض السفارات الأمريكية في الخارج بتقليص طاقمها الإداري إلى الحد الأدنى، وتأجيل منح التأشيرات في حالات غير عاجلة، ما أثّر على حركة السفر والدراسة إلى الولايات المتحدة. الأهم من ذلك أن الثقة العالمية في كفاءة النظام الأمريكي بدأت تتآكل، إذ لا يُعقل في نظر كثير من المراقبين أن تتعطل حكومة الدولة الأولى في العالم بسبب خلافات حزبية داخلية. ووفق استطلاعات حديثة، فإن أكثر من نصف المستثمرين الدوليين باتوا يرون أن الاضطرابات السياسية الأمريكية أصبحت عاملا مقلقا للاستقرار المالي العالمي، مما دفع بعض البنوك المركزية إلى إعادة النظر في نسب احتياطاتها المقومة بالدولار.
واشنطن مرتبكة وخصومها متأهبون.. حين تهتز الهيمنة من الداخل
على الصعيد النفسي والمعنوي داخل المجتمع الأمريكي، يخلق الإغلاق شعورا عاما بالارتباك والإحباط. فالموظفون يعيشون قلقا يوميا بشأن قدرتهم على تسديد الإيجارات والفواتير، والقطاع الخاص يشعر بعدوى التوتر بسبب تراجع الطلب الحكومي، بينما المواطن العادي يرى في تكرار الأزمات دليلا على تراجع قدرة النظام السياسي على إدارة شؤونه بكفاءة. وتؤكد استطلاعات الرأي أن ثقة الأمريكيين في الكونغرس هبطت إلى أدنى مستوياتها منذ عقدين، في حين يشهد الرأي العام انقساما حادا بين من يحمّل الجمهوريين المسؤولية ومن يوجه اللوم إلى الديمقراطيين. هذه الحالة من الانقسام الاجتماعي لا تقل خطورة عن الخسائر المادية، لأنها تعمّق الشعور بفقدان البوصلة الوطنية، وتضعف التماسك الذي تحتاجه البلاد في مواجهة تحدياتها الخارجية.
ومن الزاوية التقنية والمؤسساتية، فإن استمرار الإغلاق يعرقل عمل قطاعات تعتمد على التحديث المستمر للبيانات مثل مكتب الإحصاء ووزارة العمل ووكالة البيئة، مما يعني غياب المؤشرات الاقتصادية الدقيقة التي يستند إليها صانعو القرار والمستثمرون. كما أدى تجميد ميزانيات البحث العلمي إلى تعطيل مئات المشاريع في الجامعات والمختبرات الوطنية، بعضها مرتبط بتقنيات حيوية كالذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة، ما قد يبطئ وتيرة الابتكار الأمريكي في مواجهة المنافسين الدوليين. ومع توقف المراجعات الدورية للمشاريع الكبرى في البنى التحتية، تتراكم أيضا مخاطر الإهمال والصيانة المؤجلة في الطرق والجسور والمطارات، ما يفاقم الفاتورة المستقبلية لأي خطة إنعاش.
على المستوى السياسي الداخلي، الإغلاق الحالي يعمّق الشرخ بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ويعيد طرح سؤال جوهري حول فعالية النظام الأمريكي القائم على الضوابط والتوازنات. فالصراع لم يعد يدور حول بنود مالية فحسب، بل تحوّل إلى معركة رمزية على من يملك الكلمة الأخيرة في توجيه الدولة. وتُظهر مجريات الأحداث أن كل طرف يستخدم الإغلاق سلاحا انتخابيا. الجمهوريون يسعون لإظهار الديمقراطيين بمظهر المعرقلين لمصالح المواطنين، فيما يحاول الديمقراطيون تحميل البيت الأبيض مسؤولية الابتزاز المالي لخدمة الشركات الكبرى. ومع اقتراب موسم الانتخابات النصفية، يتحول الإغلاق إلى أداة لاستثارة الناخبين، مما يجعل احتمالات التسوية أقل في المدى القريب.
وفي موازاة هذه الانعكاسات، بدأت الولايات الأمريكية نفسها تشعر بالضغط، إذ تعتمد كثير من ميزانياتها المحلية على التحويلات الفيدرالية. فتعطلها يؤدي إلى نقص حاد في تمويل المدارس والمستشفيات والبرامج الاجتماعية المحلية. وقد أُجبرت بعض الولايات على استخدام احتياطاتها المالية لتغطية نفقات عاجلة، فيما حذرت أخرى من احتمال وقف خدمات النقل العام أو إغلاق بعض المراكز الحكومية إذا استمر الوضع على حاله. هذه الديناميكية تهدد بخلق توترات جديدة بين الحكومة الفيدرالية والولايات، وقد تفتح نقاشا دستوريا حول حدود صلاحيات واشنطن في حال تكرار الأزمات المالية.
كما لا يمكن تجاهل البعد الجيوسياسي للأزمة. فخصوم الولايات المتحدة مثل الصين وروسيا وإيران يستثمرون سياسيا في مشاهد الإغلاق، معتبرين إياها دليلا على ضعف النموذج الليبرالي الغربي، ويستغلونها في خطابهم الخارجي لتقويض الثقة العالمية في القيادة الأمريكية. وتتابع العواصم الأوروبية الوضع بقلق بالغ، خشية أن تمتد آثار الشلل الإداري إلى ملفات التعاون الدفاعي والاقتصادي ضمن حلف الناتو ومجموعة السبع. ومع كل يوم جديد من الإغلاق، يتعزز الانطباع بأن واشنطن منشغلة بصراعاتها الداخلية أكثر من اهتمامها بإدارة التوازنات الدولية، وهو ما قد يشجع قوى إقليمية على اختبار حدود النفوذ الأمريكي في مناطق حساسة مثل بحر الصين الجنوبي والشرق الأوسط.
وفي سياق العلاقات الاقتصادية الدولية، يتخوف الشركاء التجاريون من تأخر المصادقات على العقود والمعاهدات التجارية، وتأجيل المفاوضات حول الاتفاقيات الجمركية. كما بدأت بعض الشركات المتعددة الجنسيات العاملة في الولايات المتحدة بتعليق توسعاتها الاستثمارية مؤقتا إلى حين اتضاح الرؤية. وإذا طال أمد الأزمة، فإن تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة قد يتراجع بنسبة تتراوح بين 8 و10 في المئة خلال الربع القادم، وفق تقديرات مراكز دراسات اقتصادية أمريكية، وهو ما يمثل ضربة إضافية لسوق العمل المحلية.
في ضوء هذه الصورة، تتبلور أمام الولايات المتحدة ثلاثة سيناريوهات محتملة: تسوية مؤقتة تُعيد فتح الحكومة جزئيا دون حلّ الخلافات الجوهرية، أو رضوخ أحد الطرفين تحت الضغط الاقتصادي والشعبي بما يفرض اتفاقا سريعا، أو استمرار الإغلاق بما يشبه شللا دستوريا جزئيا يعمّق أزمة الثقة في النظام السياسي. وفي كل الحالات، تبدو أزمة الإغلاق الراهنة علامة أخرى على أن المشكلة لم تعد في الأرقام أو الميزانيات، بل في السياسة نفسها التي فقدت قدرتها على إنتاج الحلول.

