بين ذاكرة الوحدة الوطنية وجمود العملية الأممية، يقف الشعب الصحراوي اليوم شاهدا على نصف قرن من النضال ضد استعمار مغربيّ يغيّر وجهه ولا يغيّر حقيقته. فبينما يواصل المخزن وحلفاؤه تسويق وهم "الحكم الذاتي"، يؤكد الصحراويون، بالفعل والموقف، أن الشعوب تسير بإرادتها الحرة، لا بالمشاريع المفروضة، وأن الحرية لا يشتريها سماسرة القضايا ولا يقايضها تجّار المبادئ.
يحيي الشعب الصحراوي، اليوم الأحد، الذكرى الخمسين للوحدة الوطنية، حدثٌ مفصليٌّ أعاد منذ 12 أكتوبر 1975 تشكيل الوعي الجمعي الصحراوي وأرسى أسس كفاحه من أجل تقرير المصير والاستقلال، في مواجهة محاولات طمس الهوية وتزييف التاريخ. فبعد نصف قرن من إعلان الوحدة التي وحّدت الصفوف حول الممثل الشرعي والوحيد، جبهة البوليساريو، ما يزال الشعب الصحراوي – من مخيمات اللجوء إلى الأراضي المحتلة والمهجر – متمسكا بحقّه المشروع في الحرية، مؤكدا أن خيار المقاومة سيبقى مفتوحا حتى تحقيق الاستقلال الكامل. وتحلّ هذه الذكرى اليوم في ظل جمود يطبع مسار التسوية الأممية، وتعنّت مغربيّ يزداد حدة رغم الإجماع الدولي على مشروعية القضية الصحراوية، حيث يواصل المخزن وحلفاؤه تسويق أوهام "الحكم الذاتي" كحلّ بديل عن تقرير المصير، في وقت تتعالى فيه أصوات الداخل المغربي مطالبة بالعدالة الاجتماعية والتنمية الحقيقية. ومع ذلك، يواصل الشعب الصحراوي صموده وتماسكه الوطني، رافضا كل أشكال المناورة والالتفاف، ومؤمنا بأن خمسين عاما من النضال والوحدة كفيلة بأن تجعل من حقّه الثابت في الاستقلال واقعا لا يمكن الالتفاف عليه.
تمثل الذكرى الخمسون للوحدة الوطنية محطة فارقة في مسيرة التحرر الصحراوي، إذ جسّدت في لحظة تاريخية نادرة قدرة الشعب الصحراوي على الالتفاف حول هدف وطني جامع، فوحّدت صفوفه تحت راية جبهة البوليساريو، الممثل الشرعي والوحيد، لتصبح منذ ذلك الحين رمزا للتلاحم الوطني ومؤشرا على نضج الوعي السياسي الجماعي. ففي 12 من أكتوبر عام 1975، وقبل أيام قليلة من انسحاب القوة الاستعمارية الإسبانية، أعلن الصحراويون وحدتهم في مؤتمر عين بنتيلي التاريخي، مؤكدين للعالم أن كيانهم السياسي والاجتماعي ليس وليد الصدفة، بل امتداد لتاريخ طويل من المقاومة والتشبث بالهوية.
لقد كان يوم الوحدة الوطنية تتويجا لمسار من النضال والمواقف، جاء ليؤكد أن الكتلة الصحراوية كانت تمتلك، قبل الإعلان الرسمي، كل مقومات الشعب الحديث: من لغة ودين وتاريخ ومصالح مشتركة، غير أن افتقارها إلى تنظيم سياسي جامع حال دون بلورة هذا الوعي الوطني في شكل مؤسسات. ومع انطلاق جبهة البوليساريو، تبلورت الإرادة الجماعية للشعب الصحراوي في إطار وحدة اجتماعية وسياسية متكاملة، تجاوزت الانتماءات القبلية والجهوية نحو مشروع وطني تحرري واضح المعالم.
ويستحضر الصحراويون اليوم، في هذه الذكرى، مشاهد من التاريخ القريب حين حاولت إسبانيا والمغرب في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي الالتفاف على قرارات الأمم المتحدة. ففي أكتوبر 1966، أرسلت مدريد وفدا من "شيوخ الصحراء" إلى الأمم المتحدة لإيهام المجتمع الدولي بأن السكان يفضلون البقاء تحت الإدارة الإسبانية، فيما دفع المغرب بوفد آخر يروّج لمزاعم "مغربية الصحراء". غير أن تلك المناورات لم تصمد أمام الحقيقة التاريخية التي عبّر عنها مؤتمر عين بنتيلي، حين التفت كل المكونات السياسية والقبلية حول خيار الاستقلال ورفض أي وصاية أو احتلال.
خمسون عاما مرّت على هذا الحدث المفصلي، والشعب الصحراوي لا يزال صامدا في مواجهة الاحتلال المغربي، متمسكا بمؤسساته الوطنية التي بناها بجهد وتضحيات جسام، سواء في مخيمات اللاجئين أو في الأراضي المحتلة أو في المهجر. فقد تمكن خلال العقود الأربعة الماضية من بناء مؤسسات قادرة على إدارة الشأن الوطني وتأطير العمل السياسي والاجتماعي، في مشهد يثير الإعجاب ويعكس عمق الوعي بالدولة رغم كل الظروف القاهرة.
وقال وزير الخارجية والشؤون الإفريقية للجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، محمد يسلم بيسط، في تصريح لوكالة الأنباء الجزائرية، إن الذكرى الخمسين للوحدة الوطنية تحل هذا العام في ظل انتصار متواصل للشعب الصحراوي وقضيته العادلة، مضيفا أن "رغم الدعم السياسي والإعلامي والعسكري الذي يحظى به المخزن من قبل حلفائه، إلا أن الشعب الصحراوي، ولمدة نصف قرن، ظلّ موحدا وصامدا، وهذا بحد ذاته انتصار ودرس كبير للمغرب وحلفائه".
وأكد بيسط أن "المناورات لا تحل المشاكل والتعتيم لا يلغي الواقع، وأن الحق سينتصر في النهاية"، داعيا النظام المغربي إلى احترام حقوق الشعب الصحراوي ووقف سياسة المراوغة التي لن تُجدي نفعا. وأضاف أن المغرب الذي "ظن أنه انتصر بعد مناورة 1975، يكتشف اليوم بعد خمسين عاما أن ما يبيعه للعالم مجرد أوهام، وأن حديثه عن التنمية في الأراضي المحتلة لا يصمد أمام واقع الاحتجاجات اليومية التي تعم المدن المغربية طلبا للعدالة الاجتماعية".
وتابع الوزير الصحراوي أن "النظام الشمولي في المغرب فشل في تحقيق التنمية داخل أراضيه، فكيف له أن يحققها في أراض يحتلها بالقوة؟"، مشيرا إلى أن ما يسمى بالحكم الذاتي ليس سوى "سلعة بائرة فشل النظام في تسويقها حتى لشعبه، فكيف له أن يقنع بها الصحراويين الذين اختاروا الحرية طريقا لا رجعة عنه".
وفي الأمم المتحدة، جدّد ممثل جبهة البوليساريو والمنسق مع بعثة المينورسو، محمد سيدي عمار، تأكيده على أن احتلال المغرب للصحراء الغربية "غير شرعي وينبغي أن ينتهي فورا"، مطالبا الأمم المتحدة بتحمل مسؤولياتها وتمكين الشعب الصحراوي من ممارسة حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير. وقال سيدي عمار خلال كلمته أمام اللجنة الرابعة للأمم المتحدة، إن مرور خمسين عاما على الاحتلال "يكشف حجم الظلم والمعاناة، لكنه في الوقت نفسه يبرز ثبات إرادة شعبنا وتصميمه على الدفاع عن حريته مهما طال الزمن".
وأضاف أن "المخزن لم يستخلص أي درس من التاريخ، وما زال يعتقد أنه قادر على فرض الأمر الواقع بالقوة، غير أن الواقع يؤكد أن الشعوب التي تمتلك الوعي والإرادة لا تُهزم". وأوضح أن مقترح "الحكم الذاتي" الذي تروّج له دولة الاحتلال "ليس سوى محاولة جديدة لشرعنة احتلال غير شرعي وتغطية على الفشل السياسي والاقتصادي داخل المغرب نفسه".
ورغم الإنجازات التي حققها الشعب الصحراوي في بناء مؤسساته وتكريس هويته الوطنية، إلا أن هذه الذكرى تأتي وسط شعور عام بالخيبة من تراجع المجتمع الدولي عن التزاماته. فبعد عقود من الوعود والقرارات الأممية، ما يزال مسار التسوية مجمدا، في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية داخل مجلس الأمن، وتزايد نفوذ القوى الداعمة للمغرب، التي تلتف على الشرعية الدولية عبر لغة "الواقعية السياسية".
غير أن ذلك لم يفتّ في عضد الصحراويين الذين يرون في وحدتهم الوطنية صمام الأمان لمواصلة الكفاح. فكما نجحوا قبل نصف قرن في تجاوز الانقسامات وبناء جبهة موحدة، فإنهم اليوم يجددون العهد على التمسك بمبادئهم واستعدادهم لخوض كل الخيارات المشروعة من أجل استرجاع حقهم في الاستقلال، بما في ذلك الخيار العسكري إذا اقتضى الأمر، دون أن يعني ذلك الدعوة للحرب أو التفريط في السلم، بل تأكيدا على أن الصبر له حدود، وأن النضال من أجل الحرية لا يقبل المساومة.






 
 
 
 
 
                     
     
                     
    