يدفع الشعب المالي كل يوم ثمن الانقلاب الذي أطاح بشرعية الدولة وزجّ بالبلاد في دوامةٍ من العزلة والانكماش، فمنذ أن استولت السلطة العسكرية على الحكم، فقدت مالي بوصلتها السياسية، وتحوّلت ساحةٍ مفتوحة للفوضى والتدخلات الخارجية.
وسرعان ما انعكست هذه الفوضى على كل مفاصل الحياة في البلاد، فانهار الأمن، وتراجع الاقتصاد، وانهارت الثقة بين السلطة والمواطن، ما أدى إلى تفشي الفقر والمجاعة بشكل سريع، خاصة مع غياب رؤية اقتصادية واضحة.
وفي ظل هذا الانهيار المتسارع، وجد الاقتصاد المالي نفسه على حافة الانكماش، بعدما فقدت البلاد ثقة المستثمرين والمؤسسات الدولية.

تراجع حاد في إنتاج المعدن الأصفر
وتُعدّ صناعة الذهب، التي كانت تمثل ركيزة الاقتصاد الوطني، حيث كان يشكل نحو 70% من عائدات صادراتها، أبرز ضحايا هذا الوضع، إذ سجّلت وزارة المناجم، حسب ما نقلته رويتز، تراجعًا قياسيًا في الإنتاج تجاوز 30% خلال عام واحد، ليصل إلى 26.5 طنًا حتى نهاية أوت 2025، مقارنة بـ 38.5 طنًا في الفترة نفسها من عام 2023.

ويُعزى ذلك إلى التوقف المطوّل في أكبر مجمعات الإنتاج، مثل "لولو غونكوتو"، نتيجة الاضطرابات الأمنية والعجز في الإدارة.
وهذا التراجع يعد إشارة واضحة على عجز السلطة عن تسيير قطاع استراتيجي يُعدّ شريان الحياة في البلاد، حيث تلاشت عائداته أمام سوء الإدارة وتضارب المصالح وتنامي نفوذ المجموعات المسلحة في مناطق الإنتاج.
وفي غياب مؤسسات رقابية حقيقية، تحوّل استغلال الموارد إلى ملفّ مغلق تتحكم فيه دوائر ضيقة داخل النظام، فيما يتكبد المواطن البسيط كلفة الغلاء، وانهيار القدرة الشرائية، وارتفاع أسعار الوقود والمواد الأساسية بشكل غير مسبوق.
أزمة وقود خانقة
وتزامن التراجع الاقتصادي مع أزمة وقود خانقة، إذ شارف مخزون البلاد على النفاد بسبب اضطراب الإمدادات وتعطل التجارة العابرة للحدود.
وشهدت مدن كموبتي وخاي وسيكاسو طوابير طويلة أمام محطات الوقود، وارتفعت الأسعار ثلاثة أضعاف، بينما توقفت الحياة في مناطق بأكملها.
وفي المقابل، عجزت الحكومة عن احتواء الموقف أو تأمين طرق النقل الحيوية، ما أدّى إلى ارتفاع تكاليف النقل خمس مرات، وتضاعف أسعار المواد الأساسية، وسط موجة غضبٍ شعبيٍّ متنامية.
عملية نهب منظم للموارد
ولعل من بين أهم أسباب هذا الانهيار في الأمن والاقتصاد، هو انسحاب مالي من اتفاق السلم والمصالحة الموقَّع بالجزائر في عام 2015، وهو الاتفاق الذي مثّل آنذاك مكسبًا كبيرًا للسلام في مالي ونتاجًا لجهود وساطة جزائرية طويلة ونزيهة بين الحكومة المركزية وحركات الطوارق في شمال البلاد.
وكان هذا الاتفاق قد نجح في تجميد الصراع بين شمال البلاد وجنوبها، وقتها.
ومع رفض باماكو الجلوس إلى طاولة الحوار مع الحركات الأزوادية، عاد الاقتتال الداخلي ليشتعل من جديد في مدن ككيدال وغاو، ما أسفر عن مئات القتلى وآلاف النازحين.
ومع انقسام الداخل، تمددت الجماعات المتطرفة في الشمال والوسط، حتى باتت تُسيطر على مساحات واسعة من البلاد.
ووفق تقرير أممي صدر منتصف 2025، شهدت مالي أكثر من 1300 عملية عنف خلال عام واحد فقط، أودت بحياة ما يزيد على ألفي شخص، بينهم مئات المدنيين.
وبدل أن تُوجّه الحكومة جهودها نحو استعادة الأمن، انشغلت بتثبيت الحكم العسكري والانخراط في تحالفات غامضة، ففتحت أبوابها لشركات ومجموعات أجنبية مقابل امتيازات في استغلال الثروات المعدنية.
ووجدت البلاد نفسها أمام موجة من النهب المنظّم للموارد تحت غطاء الشراكات "الاستراتيجية"، ما دفع منظمات دولية إلى التحذير من فقدان السيطرة على الثروة الوطنية.
الطغمة تختلق أعداء للهروب من فشلها الداخلي
وفي ظل هذه الأوضاع المأزومة داخليًا، لجأت السلطات الانقلابية في باماكو إلى تصعيدٍ سياسيٍّ غير مبرّر على الساحة الخارجية، محاولةً بذلك تصدير أزمتها الداخلية وتبرير فشلها الاقتصادي والأمني.
فبدل مراجعة خياراتها الخاطئة التي زجّت بالبلاد في عزلةٍ غير مسبوقة، اختارت السلطة العسكرية افتعال خصوماتٍ مفتعلة، وإطلاق تصريحاتٍ عدائيةٍ من منابر دولية، في محاولة لإضفاء طابع "سيادي" على مواقف تفتقر في جوهرها إلى الشرعية والاتزان.
وقد جاء التصعيد الأخير الذي قاده رئيس الوزراء المعيّن من قبل المجلس العسكري، عبد الله مايغا، من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليؤكد أن باماكو لم تعد تتحرك وفق منطق وطني خالص، بل وفق أجنداتٍ مرسومة سلفًا من قِبَل أطرافٍ خارجية تسعى إلى تأجيج التوتر في المنطقة.
ففي كلمته من نيويورك، أطلق مايغا سلسلة من الاتهامات الباطلة ضد أطرافٍ إقليمية، وذهب إلى حدّ التلويح بالرد العسكري قائلًا: "على كل رصاصة تطلق علينا سنرد بالمثل، وعلى كل كلمة سيئة سنرد بالمثل"، في خطابٍ يعكس ذهنية المواجهة بدل الحوار، ويكشف حجم العزلة السياسية التي تعيشها السلطة في مالي.
وهذه الخطابات لا تعبّر عن إرادة داخلية حقيقية بقدر ما تعكس استجابةً لإملاءاتٍ وأجنداتٍ خارجية تموّل وتحرّك الحملات الإعلامية التي تسعى لتوجيه الرأي العام المالي نحو خصوماتٍ مصطنعة، وتغليف الفشل الاقتصادي والأمني بخطاباتٍ وطنوية لا تُقنع حتى الداخل المالي نفسه.
أكاديمي مالي: "الشعب المالي ممتن للجزائر".
وفي هذا السياق، أكد إيتيان فاكابا سيسوكو، الأستاذ الجامعي المالي المعارض والمقيم في المنفى، في حديثه، للإذاعة الجزائرية، الأربعاء الماضي أن تصريحات الوزير المالي "مؤسفة"،
وأضاف أن الطغمة الحاكمة في باماكو تسعى في كل مرة إلى اختلاق أعداء خارجيين عندما تعجز عن الاستجابة للمطالب الأساسية لشعبها".
وشدد سيسوكو على أن غالبية الشعب المالي ممتنة للجزائر، التي لطالما لعبت دورًا محوريًا في دعم السلم والاستقرار في مالي، مضيفًا: "أنا جد مرتاح لكون وزير الشؤون الخارجية الجزائري قد قال الحقيقة وأكد أن الشعب المالي لا يستحق المعاناة التي يعيشها بسبب طغمة متشبثة بالسلطة".
كما نوّه المتحدث بردّ الوزير أحمد عطاف، الذي جاء في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الإثنين، مؤكدًا أن"جمهورية مالي لا يمكن اختزالها في طغمة لا ترى لمستقبل بلدها أفقًا إلا من خلال منظار تشبثها بالسلطة والتسلط على شعبها".
حملات دعائية واسعة ضد الجزائر
وتشير عدة تقارير إلى أن هذا النهج التصعيدي ليس معزولًا عن حملاتٍ دعائية واسعة تُدار من خارج الحدود، يقودها ذبابٌ إلكتروني إقليمي مدعوم بتمويلاتٍ معروفة المصدر.
وهدفها هو حرف بوصلة الرأي العام عن الأزمات البنيوية التي تعصف بالبلاد، من تراجعٍ حادّ في إنتاج الذهب بنسبة تجاوزت 30% خلال العام الجاري، إلى تفاقم أزمة النزوح الداخلي بسبب تجدد الصراعات المسلحة في الشمال والوسط.
وهكذا، تحاول باماكو عبر “شيطنة” خصومها الداخليين واتهامهم بالإرهاب، خلق غطاءٍ سياسي لسياسات الإقصاء والقمع، وهي ممارسات باتت مكشوفة للمجتمع الدولي الذي يتابع عن كثب ما يجري في مالي، الدولة التي أصبحت اليوم مسرحا للتجاذبات والتدخلات الأجنبية.

