بين حرب أوكرانيا الممتدة، التي تحوّلت إلى ساحة مساومة جيوسياسية وصراع على النفوذ، وبين الإبادة الجارية في غزة التي تقع أمام أنظار العالم كمأساة إنسانية مكتملة الأركان، يبرز خيط واحد في السياسة الأمريكية: التماطل المتعمد. ففي أوكرانيا، تطيل واشنطن أمد الحرب لاستنزاف روسيا، وشدّ أوروبا إلى مظلتها الأمنية، واستثمار ورقة كييف بما تقتضيه مصالحها، أما في غزة، فيأخذ التماطل شكلا أشد فداحة، إذ يمنح غطاء مباشرا لمجازر يومية، ويحوّل المجاعة إلى أداة ابتزاز سياسي، بينما يواجه الأطفال والنساء آلة حرب منفلتة بلا رادع. وهكذا يتضح الفارق بين ساحة تتقاذفها حسابات التوازنات الدولية، وبين جريمة إبادة عارية من أي لُبس؛ غير أنّ القاسم المشترك هو أنّ الولايات المتحدة لا تبحث عن حلول عاجلة، بل تُحوّل الوقت والمعاناة إلى رصيد تفاوضي وذخيرة دعائية.
منذ نهاية الحرب الباردة، لم يعد ميزان القوة الدولي يرتكز فقط على امتلاك السلاح أو السيطرة على الموارد، بل على قدرة الدول الكبرى على إدارة الأزمات وتطويعها لخدمة استراتيجياتها. وقد جسدت الولايات المتحدة هذا النهج أكثر من أي قوة أخرى، حيث تعاملت مع النزاعات الطويلة بوصفها منصات لإعادة توزيع الأدوار الدولية، وضبط التحالفات، والتحكم في مسارات الطاقة والاقتصاد. هذا الأسلوب حوّل الأزمات من مآسي إنسانية إلى أدوات سياسية، وترك الشعوب رهائن للدمار والجوع والتشريد، بينما استخدمت واشنطن استمرار الحروب لتعزيز نفوذها وتثبيت موقعها كقوة مهيمنة.
مع ذلك، لم يثمر هذا النهج دائما نتائج حاسمة؛ فقد خاضت واشنطن حروبا كبرى وخرجت منها مثقلة بالخسائر، كما جرى في فيتنام والعراق وأفغانستان، حيث أنفقت تريليونات الدولارات وخسرت آلاف الجنود من دون أن تحسم المعارك لصالحها. والأسوأ أن الإدارات الأمريكية كثيرا ما زجّت قواتها في صراعات بدت أقرب إلى خدمة أجندات الآخرين، إذ قاتلت عمليا نيابة عن الغرب، وحمت مصالح أوروبا وحلف الناتو، بينما حصدت القارة العجوز المكاسب الاقتصادية والسياسية من دون أن تتحمل الأعباء نفسها.
من بايدن العاجز إلى ترامب الفجّ
مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في جانفي 2017، اكتسب هذا النهج – ولو نسبيا – بعدا أكثر صراحة. فقد أسقط ترامب الغطاء الأخلاقي الذي تمسّكت به الإدارات السابقة ولو في الشكل، وأدار سياسته الخارجية بلا اكتراث للمواثيق الدولية أو لشعارات "الديمقراطية وحقوق الإنسان". اعتمد منطق القوة المباشرة والابتزاز العلني، وربط قراراته بالمصالح الأميركية الصرفة. وأطلق خطابا صادما حين كرر في أكثر من مناسبة أنّ أولويته المطلقة تتمثل في خدمة الولايات المتحدة، حتى لو استلزم الأمر تمزيق الاتفاقيات الدولية، أو فرض عقوبات اقتصادية خانقة على أقرب الحلفاء، أو استخدام أدوات الضغط بلا قيود.
ورغم أن إدارة جو بايدن، التي تولّت الحكم في جانفي 2021، حاولت إعادة تلميع صورة الولايات المتحدة بخطاب يفيض بالدبلوماسية ويتحدّث عن "التحالفات" و"القيم المشتركة"، فإنها حافظت على جوهر السياسات القديمة. فقد تعامل بايدن مع الأزمات، من أوكرانيا إلى تايوان وغزة، كأوراق ابتزاز ومساومة، واكتفى بتغليفها بلغة أكثر نعومة من شعارات ترامب المباشرة. لكن حصيلة عهده بدت أكثر قتامة؛ إذ ارتبط اسمه مباشرة بالمجازر في غزة، التي تحوّلت إلى وصمة تاريخية كبرى في رئاسته. وبدا في النهاية كرئيس عاجز، فاقد للأهلية، ترك العالم يواجه جريمة إبادة مكتملة الأركان من دون رادع، حتى لفظه التاريخ بوصفه رجلا شغل المنصب شكليا فيما حدثت الكارثة تحت توقيعه، وكأنها وقعت في عهدة شخص لا يملك صلاحية الحساب ولا إرادة الفعل.
ومع عودة دونالد ترامب إلى الحكم مطلع عام 2025، ظهر المشهد أكثر صلابة ووضوحا. ترامب، الذي طالما تباهى بصفاء إدراكه وقوة عقله، بدا في المقارنة أكثر تماسكا من سلفه بايدن الذي اعتبره فاقدا للأهلية، لكن سياساته جسّدت الجنون الفعلي: خشونة بلا أقنعة، وانقضاض مباشر على القانون الدولي، وتخلٍّ كامل عن أي شعارات أخلاقية. فقد جعل ترامب من منطق القوة العارية والابتزاز الاقتصادي والعسكري أساسا معلنا للسياسة الخارجية، وكأن الإدارات السابقة لم تعد بحاجة حتى إلى التجميل أو الادعاء. هكذا ترسّخ النهج الأمريكي كاستراتيجية عميقة الجذور، تتناوب على توظيفها الإدارات المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة، مهما اختلفت اللغة أو أدوات التبرير.
التجارب الراهنة تؤكد هذا التحول بوضوح، فالولايات المتحدة لم تعد تكتفي بدور الوسيط أو الضامن في النزاعات، بل اندفعت لتتحرك كمستثمر مباشر فيها. الإدارة الأمريكية لا تبحث عن إنهاء الحروب، بل تسعى إلى ضبط إيقاعها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية وحساباتها الداخلية المرتبطة بالسلطة وتوجّهات الرأي العام. وهكذا اكتسب عامل الزمن بعدا سياسيا حاسما، إذ يمنح كل يوم إضافي من الحرب واشنطن أوراقا تفاوضية جديدة وضغوطا اقتصادية مضاعفة وفرصا لتعزيز موقعها في الداخل، لتكشف بذلك عن وجهها العاري وهي تدير الصراعات بمنطق المكاسب لا بمنطق الحلول.
ينعكس هذا النهج بوضوح في أوكرانيا، حيث صرّح المبعوث الرئاسي الأمريكي ستيف ويتكوف مؤخرا بأن واشنطن "تأمل" في التوصل إلى صيغة للتسوية قبل نهاية العام. هذا الاختيار لمفردة "الأمل" يوضح غياب خطة عملية ملموسة لدى الأطراف، فيما يكشف ربط التسوية بأفق زمني مؤجل أن الإدارة الأمريكية لا تضع إنهاء الحرب ضمن أولوياتها المباشرة، بل تدير الصراع بجرعات محسوبة، وتحوّله إلى ورقة مساومة مع موسكو وأداة ضغط متواصلة على الأوروبيين في قضايا الطاقة والأمن.
يزداد الخطاب الأمريكي التباسا حين يروّج من جهة لاحتمال عقد لقاء بين الرئيسين فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي وكأن التسوية قريبة المنال، ثم يلوّح ترامب من جهة أخرى بفرض "إجراءات اقتصادية قاسية" إذا لم تجرِ التسوية وفق الرؤية الأمريكية. بهذا التناقض تتحول أوكرانيا إلى ساحة شدّ وجذب بين واشنطن وموسكو، فيما يتحمّل الشعب الأوكراني وحده كلفة الدمار والانقسام والنزوح، نتيجة خيار كارثي اتخذته سلطة كييف تحت وطأة التحريض الأوروبي، فدفعت البلاد مواجهة سرعان ما تحولت إلى حرب بلا أفق ولا إمكانية للانتصار.
أكثر ما يوضح طبيعة النهج الأمريكي برز في مارس 2025، بعد مرور 54 يوما على تولي ترامب الرئاسة، حين اعترف في مقابلة مع برنامج «فول ميجر» التلفزيوني بأنه كان "ساخرا بعض الشيء" عندما وعد خلال حملته بإنهاء الحرب في غضون 24 ساعة فقط. أوضح ترامب أنه لم يقصد التنفيذ الحرفي لذلك التعهد، بل أراد التعبير عن رغبته في إنهاء النزاع، مؤكدا في الوقت ذاته ثقته بقدرته على تحقيق ذلك. هذا التصريح أظهر بجلاء الفجوة بين لغة الدعاية الانتخابية ومتطلبات السياسة الواقعية: شعارات سريعة تسوّق للجمهور الأمريكي، بينما على أرض الواقع يرسخ التماطل باعتباره جزءا أصيلا من المقاربة الأمريكية، فتتحول الأزمة الأوكرانية من مأساة إنسانية إلى ورقة مساومة تستخدم بين موسكو وبروكسل وكييف.
ساعة التماطل لا تتوقف
التردد الأمريكي يعكس حسابات مدروسة داخل البيت الأبيض، حيث يحوّل ترامب الحرب في أوكرانيا إلى ورقة دعائية لتدعيم موقعه في الداخل، وفي الوقت نفسه إلى أداة مساومة مع موسكو في ملفات تتراوح بين الطاقة والنفوذ في الشرق الأوسط. وهكذا فإن واشنطن لا تتعامل مع أوكرانيا كدولة ضحية تستحق الإنقاذ، ولا كطرف معتدٍ ينبغي ردعه، بل تنظر إليها كساحة ابتزاز دولي قابلة للتشغيل وفق الحاجة، تدار كأزمة معلّقة يستثمر فيها الوقت والدمار لصالح المساومات الكبرى.
وفي السياق ذاته، تنظر الولايات المتحدة إلى أوروبا لا بوصفها حليفا مطلقا ولا عدوا مباشرا، بل باعتبارها فضاء سياسيا واقتصاديا تسعى إلى ضبطه وفق معادلة المصالح: تمنح الدعم عندما تتقاطع المواقف مع استراتيجيتها، وتكثّف الضغوط عندما تنحرف السياسات الأوروبية عن خطها. وتتحكم في هذه العلاقة اعتبارات الطاقة والإنفاق العسكري والتوازن داخل الناتو أكثر مما تتحكم فيها شعارات التضامن الغربي.
تشكّل «إسرائيل» الاستثناء الوحيد في هذه المعادلة؛ فهي لا تتلقى معاملة خاصة كحليف استراتيجي فحسب، بل تفرض نفسها مركز ثقل يجرّ واشنطن إلى الانصياع لمعادلاتها. وفي كثير من الأحيان تنقلب الصورة لتبدو الولايات المتحدة خاضعة لحسابات تل أبيب، إذ تتراجع كل براغماتية وتذوب كل حسابات المصالح أمام أولوية مطلقة يرسمها اللوبي في الداخل ويجسّدها جنرالات الكيان على الأرض.
وهذا الاستثناء يكشف جوهر السياسة الأمريكية وحدود خطابها: فإذا كان ملف أوكرانيا وأوروبا يدار باعتباره ورقة قابلة للابتزاز والمساومة، فإن فلسطين تتحول إلى ساحة يظهر فيها الانحياز العاري بلا أقنعة؛ إذ لا مجال هنا لوساطات شكلية أو توازنات مدروسة، بل انخراط عضوي يجعل واشنطن شريكا مباشرا في مشروع الاحتلال وسياساته، لا مجرد داعم من بعيد.
ففي الوقت الذي خرج فيه المبعوث الأمريكي ويتكوف ليعلن أن ما يسميه "تسوية النزاع في غزة" قد يتحقق قبل نهاية العام "بشكل أو بآخر"، كانت الأمم المتحدة وخبراؤها الدوليون يعلنون رسميا، وللمرة الأولى في تاريخ الشرق الأوسط، تفشي المجاعة على نطاق واسع داخل القطاع المحاصر. ففي بيان مشترك صدر يوم الجمعة الماضي من جنيف، أكدت منظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، أن أكثر من نصف مليون إنسان في غزة عالقون في مجاعة قاتلة، وأن الكارثة الإنسانية بلغت مرحلة غير قابلة للتأجيل.
في ظل هذا الواقع، لا يعود لتحديد أفق زمني مناسباتي مثل "نهاية العام" أي معنى سوى التغطية على جرائم يومية تتصاعد على الأرض. فالحديث عن "الأمل في تسوية" لا يتجاوز كونه خطابا فضفاضا، بينما الحقيقة أن المدنيين الفلسطينيين يتركون فريسة للإبادة والتجويع.
الأكثر لفتا للانتباه يتجسد في التناقض الصارخ داخل خطاب ترامب نفسه؛ ففي يوم واحد تعهّد بإنهاء الحرب "بشكل حاسم" خلال أسابيع، ثم عاد في اليوم التالي ليعلن أنه "لا يوجد حل نهائي"، مؤكدا أن الصراع في المنطقة – على حد تعبيره – يمتد إلى "آلاف السنين". هذا التناقض لا يمثل زلة لسان عابرة، بل يعكس أسلوبا مدروسا يقوم على إطلاق وعود كبرى ثم التراجع عنها، بما يضمن إبقاء الأزمة مفتوحة ويوفر لرئيس سلطة الكيان الصهيوني «بنيامين نتنياهو» -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية - الغطاء الأمريكي اللازم لمواصلة لمواصلة مشروعه الإبادي في غزة وتوسيعه باتجاه المنطقة ضمن أطماع «إسرائيل الكبرى».
اللافت أن تصريحات ويتكوف وترامب تزامنت مع موقف فصائل المقاومة الفلسطينية التي أبدت استعدادها لقبول مقترح وقف إطلاق النار المدعوم من واشنطن نفسها، بينما تجاهلت «إسرائيل» الردّ وواصلت تصعيد عملياتها التمهيدية للسيطرة على غزة. ولو كانت الإدارة الأمريكية جادة في إنهاء الحرب، لفرضت على تل أبيب الالتزام بما وصف سابقا بأنه "ورقة أمريكية". لكن ما جرى كان العكس تماما: إدارة الظهر للمبادرة السابقة، وفتح الباب أمام نتنياهو لصياغة "صفقة جديدة" تمويهية وفق شروطه الخاصة، أي استسلام المقاومة وتفكيك بنيتها السياسية والعسكرية مقابل إدخال مساعدات إنسانية محدودة.
وللتذكير، فقد أطلق ترامب في لحظة صراحة فجّة يوم تنصيبه في جانفي 2025 تصريحا لافتا حين قال بوضوح إنه "غير واثق" من إمكانية صمود اتفاق الهدنة بين المقاومة و«إسرائيل»، وهو الاتفاق الذي جرى توقيعه في الأيام الأخيرة من ولاية بايدن تحت إشراف ترامب الذي أضاف قائلا: "هذه ليست حربنا، إنها حربهم". وبهذا الموقف كشف الرئيس الأمريكي حقيقة المقاربة بلا رتوش؛ إذ لا ينظر إلى بلاده كطرف معني بوقف الإبادة، بل كراعٍ حصري لمصالح «إسرائيل»، حتى وإن كان الثمن محو الوجود الفلسطيني بالكامل.
التماطل كأداة ابتزاز
إذا جمعنا بين الملفين الأوكراني والفلسطيني، يظهر بجلاء أن واشنطن لا تبحث عن حلول عادلة بقدر ما تسعى إلى إدارة الوقت بما يخدم مصالحها. ففي أوكرانيا، المماطلة تعني استمرار استنزاف روسيا وإبقاء أوروبا في دائرة التبعية الأمنية والطاقوية. وفي فلسطين، المماطلة تعني تمكين نتنياهو من ترتيب أوراقه الداخلية على حساب الدم الفلسطيني، مع استمرار تدفق الدعم العسكري والمالي للكيان، وتهيئة الظروف لتنفيذ مشاريعه التوسعية.
هذا النمط من السياسات يذكّر بما يمكن تسميته "الابتزاز المتعدد الجبهات". فمن جهة، تلوّح واشنطن بإنهاء الحرب في أوكرانيا مقابل تنازلات من موسكو أو من الأوروبيين في ملفات أخرى. ومن جهة ثانية، تستخدم ورقة غزة لتقديم خدمة مجانية لنتنياهو الذي يواجه ملاحقات قضائية وانقسامات داخلية. وفي الحالتين، تتحول المعاناة الإنسانية إلى مجرد أداة تفاوضية، بينما تتكدس أرباح شركات السلاح والطاقة، ويتحرك الساسة الأمريكيون بمنطق الحملات الدعائية لا منطق المسؤولية الدولية.
ما يزيد المشهد قتامة هو الازدواجية الفجة في الخطاب الأمريكي. ففي أوكرانيا، تتحدث واشنطن عن ضرورة حماية "السيادة الوطنية" و"حق الشعوب في تقرير مصيرها"، بينما في فلسطين تتجاهل تماما أبسط هذه المبادئ، إذ تدعم مشروع الاحتلال والاستيطان والتهجير القسري. وفي الوقت الذي يجري فيه تقديم روسيا كتهديد للنظام الدولي، يتم رفع نتنياهو إلى مرتبة الشريك الاستراتيجي مهما ارتكب من جرائم، بما في ذلك الإبادة الجماعية التي وثقتها تقارير أممية مستقلة.
حتى في ما يتعلق بالزمن، يتجلى التناقض بوضوح: فترامب يؤكد أن الحل قد يأتي "بسرعة كبيرة"، بينما يربط مبعوثوه ذلك بنهاية العام، في حين يكشف الواقع على الأرض هشاشة هذه التطمينات. في غزة، يقود نتنياهو حملة عسكرية يخطط لاستمرارها عاما كاملا مستخدما كل أدوات التطهير العرقي، وفي أوكرانيا يعزز بوتين مواقعه في الشرق لكنه يواجه صعوبات متزايدة بفعل تدفق السلاح الغربي إلى كييف، بأموال أوروبا التي تستنزف مواردها في حرب ليست لصالح أوكرانيا بقدر ما هي موجهة ضد روسيا، حرب يدرك الجميع أن أفقها مسدود في الميدان. أما سياسيا، فتواصل واشنطن تسويق الوهم، لأنها تعتبر هذا الوهم الأداة الأنجع لحماية مصالحها الاستراتيجية.
يتضح من المقارنة بين الحرب في أوكرانيا والإبادة الجارية في غزة أنّ التماطل الأمريكي لم يعد مجرد ثغرة دبلوماسية أو انعكاسا لحسابات ظرفية، بل تحوّل إلى نهج استراتيجي متعمد تتداخل فيه الأبعاد الخارجية والداخلية. ففي أوكرانيا، تراهن واشنطن على إطالة النزاع لاستنزاف روسيا وربط أوروبا أكثر بالمظلّة الأمنية والطاقوية الأمريكية، فيما تستثمر خطاب "التصدي لموسكو" لتعزيز صورتها في الداخل. أما في فلسطين، فإن المماطلة تتحوّل إلى غطاء مباشر لمشروع الاحتلال، حيث يعني كل يوم إضافي مزيدا من القصف والتجويع مقابل أرباح سياسية يقتنصها نتنياهو لترسيخ بقائه في الحكم، وضمان استمرار الولاء من اللوبي الصهيوني في واشنطن.
هذا النهج لا يعكس إدارة عابرة للملفات الدولية، بل يكشف خيارا واعيا لإبقاء العالم رهينة الأزمات المفتوحة. واشنطن لا تبحث عن حلول عادلة أو عاجلة، بل عن موازين قوى تتيح لها الإمساك بخيوط اللعبة: إبقاء أوكرانيا في حرب بلا أفق يضمن تبعية أوروبا، وإدامة المأساة الفلسطينية يوفر ورقة مساومة داخلية وخارجية.
لكن لهذه اللعبة ثمنا فادحا: في أوكرانيا، تتراكم الخسائر والانقسامات، وفي فلسطين يمنح التماطل الأمريكي للكيان المحتل ضوءا أخضر لمواصلة حرب الإبادة. والنتيجة لا تقتصر على الضحايا وحدهم، بل تمتد إلى صورة الولايات المتحدة نفسها التي تنحدر من موقع "الوسيط الدولي" إلى موقع "قوة الابتزاز". وبينما يدفع الفلسطينيون والأوكرانيون أثمانا لا تحتمل، تثبّت واشنطن قاعدة واحدة: إدارة الأزمات أنفع من حلّها، حتى لو كان الثمن إبادة أمة أو تدمير قارة بأسرها.

