2025.10.13
حديث الساعة
ذكرى «البيجر».. جرح المقاومة المفتوح

ذكرى «البيجر».. جرح المقاومة المفتوح


في خضم التحولات الإقليمية والدولية، تتصدر قضية الصحراء الغربية المشهد السياسي كأحد أكثر النزاعات حساسية وتعقيدًا في شمال إفريقيا. زيارة المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، ستافان دي ميستورا، إلى الجزائر تشكل منعطفًا دبلوماسيًا حاسمًا قد يحدد مسار الحل السياسي للصراع، فهي تأتي في توقيت دقيق قبيل اجتماع مجلس الأمن المرتقب، وتؤكد الدور المحوري للجزائر في دعم الشرعية الدولية وضمان حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، مع تعزيز فرص السلام والاستقرار الإقليمي.

في لحظة واحدة، تحوّلت هذه الأجهزة التي حملها المئات بثقة إلى أدوات قتل جماعي، لتنفجر بشكل متزامن في الأيدي والجيوب والأحزمة، وتحوّل المشهد إلى ساحة دمار دموي. وأسفرت العملية عن سقوط أكثر من 12 شهيدا، بينهم أطفال، فيما تجاوز عدد الجرحى 3000 شخص، معظمهم أصيبوا في أعينهم وأطرافهم، ما جعلها واحدة من أكثر العمليات الصهيونية دموية وقسوة في العقود الأخيرة.

في الذكرى السنوية الأولى لهذه الجريمة، وجّه الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم - أمس الأربعاء - كلمة إلى الجرحى الذين ما زالوا يعانون آثار التفجيرات. وقال لهم: "أنتم تتعالجون من الجراح وتتعالون عليها، ونجحتم في الامتحان وأنتم في حالة نهوض مع سلامة الطريق". وأكد أن الاحتلال الصهيوني أراد أن يعطل دور هؤلاء الجرحى ويخرجهم من ميدان المواجهة، إلا أنهم استمروا في المسار المقاوم، مضيفا: "أنتم تسيرون ببصيرتكم الأعظم من البصر".

واعتبر الشيخ قاسم أن قيمة ما يقوم به الجرحى على الرغم من جراحهم كبيرة جدا، فهم على درب الشهداء وعلى نهج قادة المقاومة، وفي مقدمتهم الأمين العام السابق حسن نصر الله، شهيد الأمة الذي اغتيل بعد عشرة أيام فقط من هذه الحادثة. وشدد قاسم على أن "إسرائيل" ستسقط لأنها كيان قائم على العدوان والإجرام، مؤكدا للجرحى أن النصر حليفهم مهما طال الزمن.

مجزرة غيّرت مسار الحرب

العملية التي جرى تصويرها على أنها "ضغطة زر" صهيونية بلا سابق مثيل في التاريخ البشري، لم تكن مجرد حدث أمني عابر، بل مثلت تحولا جوهريا في طبيعة الصراع. فقد انتقلت المواجهات من دائرة الصواريخ والطائرات المسيرة إلى مرحلة جديدة من الحرب الإلكترونية والتقنية المتطورة، حيث يمكن لقطعة إلكترونية صغيرة أن تتحول إلى سلاح فتاك.

وكشفت تحقيقات نشرتها وكالة رويترز أن "إسرائيل" زرعت مادة متفجرة بلاستيكية داخل أجهزة استخدمها لبنانيون، بينهم عمال في مؤسسات اجتماعية وطبية تابعة لحزب الله. وأعلن لاحقا رئيس وزراء كيان الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو - المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية - تبني العملية رسميا، بعد منحه الضوء الأخضر لها، مما تسبب بأضرار واسعة النطاق في لبنان. وهكذا يبقى مشهد تفجيرات "البيجر" محفورا في الذاكرة الجمعية اللبنانية.

وادّعى نتنياهو أن العملية كانت "ضربة استباقية ضرورية"، في محاولة فاشلة لتبرير عدوانه الصريح. ولم تكتفِ "تل أبيب" بهذه الادعاءات الكاذبة، بل أطلقت مزاعم غير موثقة حول امتلاكها "معلومات استخباراتية دقيقة"، في مسعى مكشوف لتبييض جرائمها تحت غطاء مكافحة ما تسميه "شبكات التهديدات".

وتعمل آلة الحرب الصهيونية من وراء هذه الذرائع على تطوير أدوات قمعها عبر حروب سيبرانية وتقنيات حديثة، لتمكين نفسها من تنفيذ جرائمها بدقة أعلى، مع تجنب التكاليف البشرية والسياسية المترتبة على الغزوات البرية الواسعة التي تكشف وحشيتها للعالم.

على المستوى الشعبي، تحولت ذكرى "البيجر" إلى يوم وطني للحزن والتضامن. فقد دعت مجموعات شبابية عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى المشاركة في مسيرة بعنوان "عيونا عيونكن تعافينا"، انطلقت من عين المريسة وصولا إلى المنارة في بيروت، في إشارة إلى الذين فقدوا بصرهم في هذه المجزرة.

وتدفقت كلمات الرثاء والتضامن عبر المنصات الرقمية. فانتشر وسم "#ذكرى_البيجر" و"#يوم_تفجير_البيجر" بشكل واسع، حيث كتب أحد النشطاء: "في مثل هذه الليلة كانت آخر ليلة يرون فيها أبناءهم وأحباءهم.. سبتمبر صار شهر الدم والوفاء".

وقال آخر: "قدّموا العيون قربان ا ليحيا السلاح، سلام على جراحكم وصبركم، فيما رأت ناشطة أن هذه الفاجعة "تترك في القلوب جرح ا عميق ا، وتذكرنا بقسوة العنف ومرارة الظلم الذي يفتك بالآمنين". وأضافت أخرى: "بجراحكم نمضي إلى النصر"، معبرة عن قناعة واسعة بأن ما خلفته المجزرة من ألم قد يتحول إلى مصدر قوة وإصرار.

استذكار حسن نصر الله

الذكرى لم تخلُ من استعادة كلمات الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصر الله، الذي اغتيل بعد عشرة أيام من العملية، فقد كان قد قال حينها: "هذه الضربة الكبيرة والقوية وغير المسبوقة لم تسقطنا ولن تسقطنا. إن شاء الله سنصبح أقوى وأمتن وأشد صلابة وعزما وقدرة على مواجهة كل الاحتمالات وكل المخاطر". وقد استشهد كثيرون بهذه الكلمات في تذكير بأن دماء الشهداء وجراح المصابين شكّلت أرضية صلبة لجيل جديد "لا يعرف الهزيمة"، بحسب تعبير أحد المشاركين.

لقد أراد الاحتلال الصهيوني أن تكون مجزرة "البيجر" ضربة قاصمة تُفقد المقاومة كوادرها الأساسية وتزرع الرعب واليأس في نفوس اللبنانيين. لكن مرور عام واحد كشف العكس تماما؛ فالمجزرة وإن تركت جروحا غائرة في الأجساد والقلوب، إلا أنها أطلقت موجة جديدة من الصمود، ورسخت قناعة بأن المقاومة لا يمكن كسرها بضغطة زر ولا بآلاف الجراح.

وقد عبّر الشيخ نعيم قاسم عن هذه الحقيقة بوضوح حين قال للجرحى: "أنتم أعظم مقاومة"، مؤكدا أن نهوضهم من وسط المحنة هو أعظم رد على الاحتلال. وهكذا تحولت الذكرى من مناسبة للحزن فقط إلى مناسبة للتأكيد على أن التضحيات، مهما عظمت، لن توقف المسار المقاوم الذي اختاره هؤلاء بوعي وبصيرة.

في سياق التطورات المتلاحقة في المنطقة، مثلت جريمة "البيجر" صفحة دامية جديدة في سجل الصراع الطويل بين "إسرائيل" وحزب الله، بل وشكلت نقطة انعطاف استراتيجية كبرى أعادت تشكيل معادلات المواجهة. فقد كشفت هذه العملية الدموية عن ملامح الحرب المستقبلية التي تدمج بين التقنيات المتطورة والعمليات الاستخباراتية المعقدة والحرب السيبرانية، مما يطرح تحديات غير مسبوقة على الصعد الأمنية والعسكرية والإنسانية.

غير أن المشهد يحمل وجها آخر لا يقل أهمية: فبينما سعى العدو إلى تحويل الجراح العميقة إلى حالة من العجز والاستسلام، تحولت هذه الجراح نفسها إلى عنوان للصمود والنهوض. وبينما حاول رسم خريطة جديدة للردع القائم على الخوف والإخضاع، رسم الشهداء والمصابون بخيارهم وتضحياتهم خريطة جديدة للكرامة والإصرار.

وهكذا ستظل ذكرى "البيجر" محفورة في وجدان اللبنانيين والعرب، ليس مجرد جريمة صهيونية أخرى، بل كحدث تاريخي صاغ وعيا جديدا، وأكد أن الاحتلال، مهما امتلك من تكنولوجيا متطورة وأدوات تدمير، يبقى عاجزا عن هزيمة إرادة شعب آثر المقاومة واختار الصمود حتى النصر.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار