2025.10.13
ما قيمة الحياة إن فقدت أرواحُنا قدرتَها على الحلم؟

ما قيمة الحياة إن فقدت أرواحُنا قدرتَها على الحلم؟


الإنسانُ روحٌ تتجلّى في هيئةٍ من طين، لا جسدٌ عابرٌ تسكنه ومضةُ روحٍ تائهة. وحين يَخفت صوتُ الداخل، ويغيب الهمسُ الذي يربطنا بأنفاسنا الأولى، يضطربُ ميزانُ الكائن، ويتداعى ما كان يشدّه إلى المعنى والجوهر. نغدو حينها أشبهَ بظلالٍ تمشي على الأرض، تُحركها المادّة وتُطفئها الضوضاء.

إنه زمنٌ تُستنزَفُ فيه الأرواح كما تُستنزَف الطاقات، وتُقايض فيه الأحلامُ بالوظائف، والكرامةُ بالتصفيق، والمشاعرُ بنقراتٍ على الشاشات. نُحاصَر بالخيبات، ونتنفسُ العدم في كل لحظةٍ من الصباح إلى المساء. نمنح فلا يُرى عطاؤنا، ونُحاطُ بأشباهِ بشرٍ لا يشبهوننا، يبتسمون بوجوهٍ ناعمةٍ تخفي قسوةَ الحجر. فكيف لا تتآكل النفس في هذا الطوفان؟

نستيقظُ على ألمٍ لا نعرف مصدره، وننام على وجعٍ يرفض أن يهدأ. وما بين الصحو والمنام، يتكاثرُ الخراب: قتلٌ ودمارٌ، ظلمٌ وتجويع، خيانةٌ تُعلن عن نفسها كأنها بطولة، وبيعٌ للضمائر تحت لافتة المصلحة.

نعيش في دوّامةٍ تصهرنا من زفراتِ الخارج إلى أنينِ الجدران، حتّى يصبح البيتُ ضيّقًا، والسكوتُ صاخبًا، والهواءُ مثقلًا بما لا يُقال. فكيف يُرجى من روحٍ مرهقة أن تظلّ نقيّة؟ وكيف يُطلب من إنسانٍ محطّم أن يبتسم للعالم؟

لذا وفي مثل هذا العصر، لا تكون التربية النفسية ترفًا ولا زينةً في الخطاب، بل هي الملاذُ الأخير، ضرورةُ البقاء، وجرعةُ الوعي التي تحفظُ الإنسان من السقوطِ في العدم. إنها عودةٌ إلى الأصل، إلى النور الذي يسكننا منذ الأزل، إلى صوتٍ خافتٍ في أعماقنا يقول: "لا تنسَ أنك روحٌ، وأن جسدك ظلّها لا أكثر".

إذا ما تأمّلنا مشاهد الحياة اليومية، نرى الفرد منّا يجهل نفسه، يعجز عن احتواء مشاعره، لا يُحسن التعبير عنها، ولا يعرف كيف يواجه الأزمات. نرى الغضب يفيض لأبسط المواقف، والاكتئاب يتسرّب في صمتٍ كالماء في الجدران، والعلاقات تنهار تحت وطأة انفعالاتٍ لم تُفهم بعد. كلّ هذا ليس سوى دليل على غياب أدوات التوازن النفسي، وعلى فقرٍ في الوعي العاطفي والسلوكي، ما يجعل التربية النفسية ضرورةً لا تقلّ شأنًا عن التربية العلمية أو الدينية أو الأخلاقية.

إنها تربيةُ القلب قبل الفكر، وتهذيبُ الشعور قبل السلوك. تلك التي تُعلّم الإنسان كيف يُصغي إلى ذاته، كيف يتنفس حين يشتدّ الغضب، وكيف يرمّم شقوقه الداخلية دون أن يجرّح الآخرين. فما نفعُ علمٍ يشيّد المدن إن كان الإنسان في داخله خرابًا؟ وما جدوى الأخلاق إن لم تُلامس جرح النفس لتضمّده؟

التربية النفسية ليست دروسًا تُلقَى، بل رحلة وعيٍ صامتة، يبدأها المرء حين يجرؤ على النظر في مرآته الداخلية بلا خوف. هي أن تُصالح نفسك على ماضيك، وتغفر لضعفك، وتُدرّب قلبك على الصبر لا على التبلّد، وأن تتعلّم الإصغاء إلى الآخرين كما تُصغي إلى نَفَسك حين يتقطّع.

إنها فنّ العيش بسلامٍ في عالمٍ لا يعرف السكينة، هي البوصلة التي تُعيدنا إلى إنسانيتنا كلّما أوشكنا أن نضيع في الزحام. ومن دونها، سنظل نُكرّر أخطاءنا، ونُبدّل وجوهنا دون أن نُبدّل دواخلنا.

فيا ليتنا ندرك أن بناء الروح لا يقلّ شأنًا عن بناء الجسد، وأنّ الوعي بالنفس هو أوّل درجات النور، فمن عرف نفسه، عرف طريقه، ومن رعى قلبه، أزهر العالم من حوله.

في زمنٍ مثقلٍ بالحروب، حيث لا بيت يخلو من غائبٍ أو مفقود، ولا قلبٍ إلا واعتاد على الفقد كعادةٍ يومية، تغدو التربية النفسية طوقَ نجاةٍ وحيد في بحرٍ متلاطمٍ من الألم.

في وطنٍ مثل لبنان، كم من طفلٍ وُلد على أصوات الانفجارات، وفتح عينيه على ركام البيوت لا على ألوان الصباح؟ كم من أمٍّ فقدت أبناءها، وكم من شابٍّ تاه بين الحزن والنجاة؟ ومن لم يخسر عائلته خسر صديقًا، أو جارًا، أو أمنَه الداخلي.

نحيا وسط الخسارات المتراكمة، وفي ظلّ ضيقٍ اقتصاديٍّ يثقل الجيوب والأرواح معًا. صار الهمّ اليومي أكبر من طاقة النفس، وصارت الابتسامة مقاومةً صغيرةً في وجه الانهيار.

وفي خضمّ كل هذا، يقف الطفل اللبناني على عتبة الوعي المبكر، يحمل في عينيه صورًا لا تُناسب طفولته: دخان، صراخ، وجوه قلقة، ونقاشاتٍ في المنازل تُشبِه المعارك الصغيرة. كيف تنمو نفسٌ صغيرةٌ بين الركام ولا تلتوي؟ كيف يتعلّم الطفل الحبّ، إن لم يجد من يعلمه كيف يُحبّ ذاته أولًا؟

من هنا تبدأ الحاجة الملحّة إلى تربيةٍ نفسيةٍ رحيمة، تحتضن جراح الصغار قبل أن تتكلّس، وتزرع فيهم معنى الأمان لا الخوف، والتعاطف لا القسوة، والرجاء لا اللامبالاة. وهنا، وكما في كلّ مجال، يبرز دور الأدب والأديب، فالأديب هو من يُمسك بجمر الحقيقة بيدٍ، ويُمسّد على قلب القارئ بالأخرى. الأدب ليس ترفًا لغويًّا في زمن الخراب، بل هو علاجٌ للروح بالكلمة، هو مساحةٌ آمنةٌ يتنفّس فيها الإنسان، فيرى نفسه في الحروف فيشعر أنّه ليس وحده.

في القصيدة، يجد الموجوع مرآته. وفي الرواية، يتلمّس القارئ طريق الخلاص. فالكلمة الصادقة تفتح نافذةً للنور في أضيق الجدران، والأديب الذي يكتب عن الوجع لا يُثير الشجن فحسب، بل يُعلّم الناس كيف يتعاملون مع وجعهم بوعيٍ لا بانكسار.

والأدب الحقيقيُّ هو امتدادٌ للتربية النفسية، فكلاهما يُعالج الإنسان من الداخل، ويُعيد له صلته بما هو جميل، بما هو إنساني. إنه فنّ التطهير بالمعنى، حيث تتحوّل الكتابة إلى شفاءٍ بطيءٍ، كأنّ كل جملةٍ تضع ضمادًا على جرحٍ غير مرئي.

 ولم يكن الأدب يومًا فنًّا قائمًا بذاته، يعيش في عزلة عن سائر ميادين الفكر والمعرفة، بل ظلّ على الدوام مرآةً تعكسُ تفاعل الإنسان مع الحياة في أبعادها المتعدّدة. فقد ارتبط الأدب بعلم الاجتماع حين صوّر البنى والعلاقات داخل المجتمع، وكشف علله وآماله وصراعاته. وامتدّ ليصافح علم النفس، فغاص في أعماق الذات الإنسانية، كاشفًا دوافعها، وهواجسها، وما يختلج في سرائرها من ألمٍ وأمل.

كما تداخل الأدب مع الفلسفة، إذ حمل همَّ الوجود الإنساني وسعى إلى الإجابة عن أسئلة المعنى والغاية، ومع التاريخ حين سجّل الحوادث بروحٍ إنسانية نابضة، لا كما تسجّلها الوثائق الجامدة. بل إنّ الأدب اقترب حتى من العلوم الطبيعية والسياسية والاقتصادية، فكان في كلّ ميدانٍ لسانَ الإنسان وضميرَ العصر.

وهكذا فإنّ الأدب، في جوهره، مساحةَ التقاءٍ بين العاطفة والعقل، بين الفنّ والعلم، وبين الواقع والحلم، لأنه الفنّ القادر على ترجمة الإنسان في كلّ حالاته، فردًا كان أو مجتمعًا.

وإذا أردنا إيجاد بعض الحلول، فلعلّ المدرسة اليوم هي المكان الأقدر على حمل هذه الرسالة (فيما يخص الأطفال على وجه التحديد). فليست وظيفتها أن تُخرّج متفوّقين في الحساب واللّغة فحسب، بل أن تُربّي أرواحًا تعرف كيف تُحبّ، وكيف تُسامح، وكيف تصمد. ينبغي أن تُدرَّس في المدارس مهارات الحياة النفسية كما تُدرّس العلوم، أن يتعلّم الأطفال كيف يُعبّرون عن مشاعرهم، كيف يتعاملون مع الخوف والغضب، كيف يُصغون، وكيف يُشاركون الألم دون عنفٍ أو صمتٍ مُدمّر.

يمكن أن تُنشأ في المدارس جلسات تفريغٍ نفسي، حصص رسم وموسيقى، ومساحاتُ حوارٍ آمنةٍ يشرف عليها مختصّون أو تربويون مؤهّلون، يتعلّم فيها الأطفال كيف يعبّرون عن أنفسهم وعن مخاوفهم، كما يتعلمون أنّ البكاء ليس ضعفًا، وأنّ الحديث عن الخسارة بدايةُ التعافي منها.

إنّ زرع الوعي النفسي في الطفولة هو استثمارٌ في مستقبلٍ أقلّ قسوة، فكلّ جيلٍ متوازنٍ نفسيًّا هو وطنٌ قادرٌ على النهوض من تحت الركام. فيا ليتنا نُدرك أنّ بناء الإنسان أعمق من بناء الحجر، وأنّ التربية النفسية ليست ترفًا في زمن الوجع، بل هي اللبنة الأولى في إعادة إعمار الروح (خاصة في بلدنا). فما قيمة الأوطان إن لم يسكنها بشرٌ أصحّاء من الداخل؟ وما قيمة الحياة إن فقدت أرواحنا قدرتها على الحلم؟

يتصفحون الآن
أخر الأخبار