2025.10.13
جيل منتصف التسعينيات... الحظ واللعنة معا!

جيل منتصف التسعينيات... الحظ واللعنة معا!


جيل منتصف التسعينيات، بل آخر دفعةٍ منه تحديدًا، جيلٌ محظوظ كما يصفه البعض، إذ لحق ببقايا زمنٍ أكثر هدوءًا وأقلّ تعقيدًا. جيلٌ عاش لمحة من البساطة قبل أن تغزونا التكنولوجيا بكل ما فيها من فوضى السرعة والسطحية.

كنتُ واحدةً من أولئك الذين امتدت لهم يد الحظ، لأكون في آخر صفوف هذا الجيل، الجيل الذي أصابته "لعنة الخوف من الزواج" كما يحلو للآخرين تسميتها. جيلٌ وُصِف بأنه معقّد تجاه الارتباط، يخشى المجهول، يهاب المسؤولية، أو يُتَّهَم بأنه غير مقتدرٍ ماديًّا، أو أنه يعيش ظلال خيبة حبٍّ فاشلة جعلته متردّدًا أمام أيّ خطوة تالية.

في الحقيقة، أيها القارئ العزيز - ويا سعيدًا إن كنتَ واحدًا منا - فربما كان من يطلق هذه الأحكام محقًّا إلى حدٍّ ما، لكنهم نسوا حلقةً خفيّة، ضائعة، لم يسلّط الضوء عليها أحد، لا نحن ولا هم.

خوفُنا الحقيقي ليس من الزواج بحدّ ذاته، بل من الخطأ الذي لا يمكن إصلاحه، من التراجع المستحيل بعد القرار، من أن نختار شريكًا يحمل في داخله عُقدًا نفسيةً لا تنكشف إلا بعد فوات الأوان.

فإن حالفنا الحظ وأحببنا، جاء خوفٌ آخر أشد وطأة: أن يكون الحبّ ابتلاءً آخر في صورة جميلة، أن نُصاب باضطراباتٍ نفسيةٍ لا شفاء منها، أو بأمراض القلب والقلق والوساوس التي تفتك بالروح قبل الجسد.

وإن تجاوزنا كل ذلك، طرَق بابَنا خوفٌ جديد... الخوف من أن نُعيد الخطأ ذاته في تربية كائنٍ صغيرٍ أتى إلى هذا العالم البارد. أن نخشى أن يكون طفلنا ضحية جديدة في دائرةٍ مكرّرة من الخلل التربوي، أو أن نعجز عن تحقيق التوازن بين الحزم والحنان. أن نكون ميسورين ماديًّا فنمنحه كل شيء، حتى يغدو شابًّا لا يعرف قيمة ما بين يديه، يطلب المزيد دون شكر، وحين يدور دولاب الحياة وتتعثر الخطى، نُدرك أننا ربّينا في داخله بذرة الترف المفرط التي لا تعرف الصبر ولا القناعة.

نخاف أيضًا أن نغرس فيه وهمَ التفوّقِ الدائم، فنريده الأول في كل شيء: في اللعب، في الدراسة، في الحياة. فنخلق في داخلِه مريضًا جديدًا على هذا الكوكب... إنسانًا لا يحتمل الخسارة، لا يفهم أن الحياة لا تُقدّم كل ما نريد، فينهار أمام أول انكسار، لأنه لم يتعلّم أن السقوط جزءٌ من النمو.

ولعلّ أكثر ما يُدهشني، ذلك الأب الذي يصرخ في وجه ابنه ليمتنع عن التدخين، بينما هو ينفث الدخان أمامه كأستاذٍ في الرذيلة، أو تلك الأم التي تطلب من ابنها أن يتحدث بهدوء وهي توبّخه بصوتٍ مرتفعٍ يزلزل الجدران! وعن تلك العائلة التي تلقّن طفلها الكذب لتجنّبِ الإحراج، ثم تعاقبه لاحقًا حين يصبح كاذبًا بارعا...

هذا هو الخوف الحقيقي، أن نُسيءَ تربية أطفالنا نفسيًّا ونحن نظنّ أننا نحسن صنعًا. أن نحاصرهم بالحماية المفرطة أو نغرقهم بالحرمان، فننتج شخصياتٍ مهزوزة، تائهة بين التمرد والاعتمادية.

إن علّمنا أبناءنا قيمة الصدق، استرحنا من عبء الشك، وإن تحدّثنا معهم بهدوءٍ، أسهمنا في تهدئة خلاياهم العصبية، ليصبحوا أكثر اتزانًا وقدرةً على استقبال الحياة بعقلٍ مطمئن.

عزيزي القارئ، لا تغترّ بالنجاحات الأكاديمية، فالطبيب أو الكاتب أو المهندس قد يحمل داخله عُقدًا تكفي لإشباع "يأجوج ومأجوج" من الاضطرابات! فالنجاح لا يعني بالضرورة سلامة النفس.

ولهذا، حين يحاول الطبيب النفسي فهم انهيار مريضه، يعود إلى هناك، إلى الطفولة، إلى البذرة الأولى التي لم تُروَ بالحبّ الصحيح ولا بالوعي الكافي.

أتذكر صديقةً لي تكبرني بسنوات، فقدت زوجها ودخلت في دوّامةٍ من رفض الواقع. وبعد فترةٍ طويلةٍ من التقبّل والعلاج، قررت أن تُعلّم ابنها ثقافة "الفقد" بوعيٍ عجيب. علّمته أن الأشياء قد تختفي فجأة، أن لعبته المفضلة قد تُكسر، وأن مدرسته قد تتبدّل، وأن الإنسان الذي يحبّه قد يغيب. كان الأمر قاسيًا، لكنه حقيقي. لقد أرادت أن تزرع في قلبه المناعة العاطفية قبل أن تفرضها عليه الحياة بقسوتها.

كم كنّا سنختصر من الألم لو أدركنا مبكرًا أهمية التوازن في التربية النفسية، لو فهمنا أن بناء الإنسان لا يبدأ من عقله بل من روحه، وأننا إن لم نحسن تربيتهم نفسيًّا، فسننجب أجسادًا تنمو وعقولًا تتكسّر.

جيل منتصف التسعينيات... جيل الحظّ واللعنة معًا. رأى كل شيء، وخاف من كل شيء، لكنه على الأقل وعى الخطر، وأدرك أن النجاة في هذا الزمن تبدأ من الداخل، لا من الخارج.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار