2025.07.17
سياسة
قسما بالنازلات.. نشيد الصدى وصوت المدى.. في الليالي الحالكات..!

قسما بالنازلات.. نشيد الصدى وصوت المدى.. في الليالي الحالكات..!


تعالت أصوات بعض المتفيقهين الجدد مؤخرا، وتنادت بتكفير فحل النظم والقافية، الشاعر صاحب اللهب المقدس والألفية؛ مفدي زكريا، في مطلع قصيده الرهيب، والذي صار نشيدا رسميا للجمهورية الجزائرية:

قسما بالنـازلات الماحقات..... والدمــاء الزاكـيـات الطــاهــرات

والبنود اللامعات الخافقات..... في الجبال الشامخات الشاهقات

دعواهم في ذلك أنه قسم بغير الله، وأن القسم بغير الله شرك، على ضوء ما ورد في حديث رَسولَ اللَّهِ -صَ-، أنه أدْرَكَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، وهو يَسِيرُ في رَكْبٍ، يَحْلِفُ بأَبِيهِ، فقالَ: ألا إنَّ اللَّهَ يَنْهاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بآبائِكُمْ، مَن كانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللَّهِ أوْ لِيَصْمُتْ.

وهذا حديث ما كان ليخفى عن ذهن شاعر مؤدب ملتزم بقضايا أمته ووطنه، ولا عن أذهان علماء الجمعية التي في أحضانها كان قد تربى الشاعر وترعرع، وارتوى من ضرع الدين والعقيدة حتى الثمالة، وهو القائل:

شربت العقيدة حتى الثمالــة..... فأسلمت وجهي لرب الجلالة

وإذا الشعب أخلف عهد الإله..... وخـان العقيدة فارقب زواله

ولذلك، فإن حملة المتحاملين هؤلاء، ليست في الحقيقة سوى عملا عدائيا يدخل في دائرة شيطنة كل ما هو جزائري ليس إلا، فحتى المسجد الأعظم الذي أبدعت فيه الجزائر إنجازا وإعجازا، لم يسلم هو الآخر من شر الشراذم والفلول، فأسموه؛ مسجد الضرار، لا لشيء إلا لأن القوى التي تحرك هؤلاء وأولئك، لم تجد لها ربحا ولا ريعا ولا سحتا في هذه المؤسسة الشامخة المهيبة، فأخرجت حقدها وراحت تنفثه ذات اليمين وذات الشمال، على ألسنة السوء التي سخرت نفسها وتجندت لخدمة أعداء الحاضر والتاريخ.

وبالعودة إلى كلمات النشيد الوطني الجزائري، وجب التوضيح بأن الشاعر لم يقسم بغير الله وإنما أقسم بأثر من أثار الله، وهو كلامه العظيم المتمثل في الآيات البينات، النازلات بالحق الذي يمحق الباطل، وبالتوحيد الذي يمحق الشرك، وبالعدل الذي يمحق الظلم، وبالنور الذي يمحق الظلام... وأما الدماء والبنود والرايات، فإشارة إلى النفير العام بالجهاد المقدس، في سبيل الله من أجل تحرير الوطن.

على عكس ما يروج له أصحاب الادعاء المدسوس والفهم المنقوص، بأن القسم كان بالقنابل النازلات والصواريخ الواقعات ووو... ففي هذا جهل مطبق بأصول البلاغة والبيان في الشعر العربي وفي لسان العرب على وجه العموم، ذلك أنه لا يمكن للشاعر أن يقسم تبركا بالقنابل والقذائف والطائرات، والتي هي ملك للعدو الغاشم الذي كان يمطر بها رؤوس الشعب الجزائري الاعزل.. فهذا أمر لا يستساغ أبدا.

وأما على وجه الأدب والبلاغة، فقد ورد قول الشاعر في سياق التوكيد على العزم المطلق، من قبل الشعب الجزائري، على خوض معركة الكرامة والتحرير دون رجعة ولا هوادة، فإما النصر وإما الشهادة. وهذه لغة أهل الشعر والبيان، فقد قيل؛ يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره.

وفي هذا السياق، وعلى سبيل الاستدلال، تقول الشاعرة الكبيرة عائشة التيمورية؛

قسماً بغض نواظري وتلهفي........ مذ غــاب إنـسان وفـارق نــور

وبقبلتي ثغــرا تقــضى نحبـه....... فحرمت طيب شذاه وهو عطير

والله لا أسلو التــلاوة والدعـا....... مــا غردت فوق الغصون طيــور

وهنا، ليس سويا أن نفهم بأن الشاعرة تقسم بأخلاقها ومشاعرها، فمن الغباء فهم كلامها على أنه قسم، حتى وإن ورد اللفظ صريحا.

كذلك الشاعر نزار قباني، كان قد أورد قسما في قصيدته؛ بلقيس، حيث يقول؛

قسماً بعينيك اللتين إليهما..

تأوي ملايين الكواكب..

سأقول، يا قمري، عن العرب العجائب..

وهكذا، وحتى في القرآن الكريم، كان رب العزة قد أقسم بحياة محمد في قوله عز وجل؛ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ... وهذا على عادة العرب حيث يقول النابغة الذبياني زمن الجاهلية:

لعمري، وما عمري علي بهين.....فقد نطقت بطلا علي الأقارع

فإذا سلمنا بقول الشاعر على أنه حلف بغير الله، أيمكن أن نتجرأ على قول الله تعالى فننكره بدعوى أنه قسم بغير الله...!! لا، لا يمكن وإلا، فإنها الجرأة على الله سبحانه وتعالى وذاته المقدسة.

ولذلك، كان، ولا زال وسيبقى نشيد الجزائر؛ قسما بالنازلات... من أعظم الأناشيد الوطنية في العالم وعلى مر التاريخ؛ إن في لغته الجزيلة ومعانيها الراقية الغائرة الأصيلة، أو في موسيقاه الرهيبة الرائعة البديعة، أو في ايقاعه الصارم الحازم البليغ.

فعلا، فهو النشيد الذي كُتب بدم صاحبه -فعلا وليس مجازا- على حائط زنزانة في سجن بربروس، في لحظة إبداع وهيام، صنع خلالها الشاعر الكبير تاريخا ثوريا رهيبا لا يتكرر مرتين.. حيث صار لكلمات قصيدته تلك شأن عظيم بين قصائد العالم والعرب، خصوصا بعدما تهادت كلماتها وتمايلت بين أنامل ذهبية صافية أصيلة للفنان المصري؛ محمد فوزي.. ليحولها إلى معزوفة ثورية وطنية، صارت أجمل ما اُنشد في الثورات العربية والعالمية ضد الطغاة المستعمرين، ومن أعذب ما قيل في حب الوطن والدفاع عن ثوابته ومقوماته.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار