2025.07.17
نوستالجيا
عام سعيد..

عام سعيد..


لن يتوقف الزمان في هذا اليوم، ولن تنتهي الحياة؛ الواحد والثلاثون من الشهر الأخير للسنة، هو مجرد رقم له رمزيته الحسابية في نواميس الكون يوم خلق الله الأرض والسماوات لا أكثر؛ ".. إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ.." والأمر لله من قبل ومن بعد، فليس من العقل أن تُخرج الأيام عن سياقاتها، ولا أن تُعطى أكثر من دلالاتها، ولا أن تُربط بالبخت و"القسمة" والنصيب.. فالدنيا حظوظ والأيام دول، كما قال شاعر النيل "حافظ ابراهيم":

فإِذَا رُزِقْتَ خَلِيقَةً مَحْمُودَةً................

..............فَقَدِ اصْطَفَاكَ مُقَسِّمُ الأَرْزَاقِ

فَالنَّاسُ هَذَا حَظُّهُ مَالٌ، وَذَا..............

..................عِلْمٌ وَذَاكَ مَكَارِمُ الأَخْلَاقِ

فمن كان حظه زاهرا لن تكسره الأيام، ومن كان حظه عاثرا لن تنصره الأعوام، وليقنعن كل بما أوتي من ربه والسلام..

يقول شاعر السودان صاحب الحظ الأسود "إدريس جماع":

إنّ حظّي كدقيق ٍ................

..................فوقَ شوكٍ نثروهُ

ثمّ قالوا لحُفاةٍ......................

..................يومَ ريح ٍ إجمعوهُ

صعُبَ الأمرُ عليهمْ...............

...............قلتُ يا قوم ِ اتركوهُ

إنّ من أشقاهُ ربِّي................

.................كيفَ أنتم تسعدوهُ

وشاعرنا هذا، صاحب "الحظ الأسود"، كان قد ولد وعاش ومات كملايين الاشقياء من أصحاب "الحظ العاثر"، لكنه ترك فسحة شعرية ومسحة أدبية يحلم بها الملايين من أصحاب "الحظ الوافر".. فمما يروى عنه –رحمة الله عليه- أنه كان في رحلة علاجية مسافرا من الخرطوم إلى لندن، وحدث أن قابل عريسا وعروسه بالمطار، فراح ينظر في العروس مبديا إعجابه، فغار العريس ووقف ساترا عروسه، فاستجمع "جماع" قواه العقلية والعاطفية وراح ينشد:

أعلى الجمال تغار منّا.......................

.......................ماذا عليك إذا نظرنا

هي نظرة تنسي الوقار.....................

.......................وتسعد الروح المعنّى

دنياي أنت وفرحتي.......................

........................ومنى الفؤاد إذا تمنّى

أنت السماء بدت لنا......................

...................واستعصمت بالبعد عنّا

هلا رحمت متيماً............................

................عصفت به الأشواق وهنّا

وهفت به الذكري فطاف.................

.......................مع الدُجى مغناً فمغنا

هزته منك محاسن.........................

............................غنّى بها لما تغنّى

آنست فيك قداسة......................

.......................ولمست اشراقاً وفنّا

ونظرت في عينيك.......................

.......................آفاقاً وأسراراً ومعنى

وسمعت سحرياً يذوب..................

....................صداه في الأسماع لحنا

نلت السعادة في الهوى.................

..........................ورشفتها دنّاً فدنّا

فلما بلغت هذه الأبيات مسامع الأديب العملاق "عباس محمود العقاد"، سأل عن صاحبها.. فقيل له؛ شاعر سوداني يقال له "إدريس جماع"..

فقال لهم: أحي هو الآن أم غادر الحياة..؟

فقيل له؛ نعم، لكنه جنّ، وهو الآن في مشفى المجانين.

فقال: ذاك مكانه، فهذا كلام لا يقوله إلا المجانين.

وعندما وصل "جماع" إلى لندن، أنزلوه مشفى وأوكلوا شأن خدمته إلى ممرضة شقراء ذات عيون جميلة زرقاء، فكانت كلما دخلت عليه أمعن فيها النظر وركز في عينيها البصر، حتى ضايقها ذلك وأحرجها، فلما اشتكت أمره لبعض مسؤوليها قالوا لها بأن تلبس نظارات سوداء، وهكذا ستكونين في منأى عن نظرات المريض الثاقبة.

وفي الغد دخلت عليه بنظارات سوداء، فلما رآها اهتز دهشة وأنشد قائلا:

السيف في الغمد لا تُخشى بواتره.............

.................وسيف عينيك في الحالين بتار

سمعته لكنها لم تفهم ما قال فيها، فلما ترجموا لها البيت، هوت وبكت تأثرا بمعنى الكلام ورأفة بواقع الحال.. وصنف بيته كأبلغ شعر قيل في الغزل، منذ أمد بعيد.

ورغم كل ما يمكن سرده من حجاج عن سوء الحظ وما يرافق ذلك من تطير وتشاؤم وغيرها، إلا أن الانسان لابد وأن يدرك بأنه هو محور حراك العالم وقطب رحى الكون، فلا يُحقّرن نفسه وليعتدّ بذاته من دون تجبر ولا تكبر، وللّه در الامام الأكبر "علي بن أبي طالب" حين قال:

دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ.................................

................................وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ

أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير..................................

.........................وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ

فَأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الَّذي..........................

..................................بِأَحرُفِهِ يَظهَرُ المُضَمَرُ

وَما حاجَةٌ لَكَ مِن خارِجٍ............................

..............................وَفِكرُكَ فيكَ وَما تُصدِرُ

وعليه، فإن الاعتداد بالنفس، بعيدا عن النرجسية الجوفاء، يعد من وسائل الارتقاء بالذات وتطويرها، بهدف بلوغ الطمأنينة النفسية والسكينة الروحية والسلام الداخلي.. وتطوير الذات والتحفيز الذاتي، يعد من أهمّ المهارات التي تسهم في صناعة النجاح والوصول إلى حياة مُرضية.

ولأننا نعيش في عالم تلوّثه السلبية ويعمه التشاؤم، فقد أصبح من الضروري جدا أن ينخرط المرء في مسعى بناء نفسه بنفسه وتحفيز ذاته وتحصينها لتجاوز المطبات، بعيدا عن الاتكالية والاسترخاء في انتظار حل يتنزل من السماء.

أسعد الله أعوامكم، وأمد أعماركم.. وأعلى شأنكم ورفع أقداركم وأعز ذكركم.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار