2025.07.17
نوستالجيا
«فاطمة والمُغنَجي».. أسطورةُ حُبّ جزائرية

«فاطمة والمُغنَجي».. أسطورةُ حُبّ جزائرية


يزخر التراث الشعبي الجزائري بالكثير من الملاحم والقصائد الشعرية التي تُؤرّخ لحكايا الحب والبطولة، غير أن القليل منها لاقت سبيلها إلى التوثيق عبر الكتابة أو التسجيل الغنائي، ولعلّ بعضها قد انتهى بانتهاء من يحفظونها، وبعضها في طريق السقوط من الذاكرة الشعبية، فحكاية الحب بين المُغنَجي وابنة عمه فاطمة، هي واحدةٌ من الحكايات التي ما زال هناك من يحفظها ويردّدها في الجنوب الشرقي للجزائر، وتنتظر من يتعمّق بحثا فيها ويوثّقها، رغم مزاعم ـ لا أساس لها ـ تدّعي بأنها من تراث المغرب، إذ سنورد في هذه الإطلالة ما يؤكّد جزائريتها، على أن نضيء بعض الزوايا حول خفاياها.

ما زال بعض كبار السن في ولايتي بسكرة والمسيلة يحفظون قصيدةً شعبيةً يتغنّى فيها العاشق بمعشوقته ويصفها كأنما هي حورية أفلتت من بحر الجمال، ويربطون القصيدة بحكاية فتى أحب ابنة عمه وأحبّته، ولكن أمرهما انكشف، فقام والداهما بقتلهما ودفنهما قرب بعضهما البعض، فنما من كل قبر شجرةٌ، وتعانقت الشجرتان، فتمّ قطعهما.

وفي رواية أخرى أنه تمّ حرق جثتي القتيلين، فشكّل دخّان احتراقهما غيمة ظلّت ثابتة في مكانها لزمن طويل، بالإضافة إلى روايات أخرى كثيرة، يبدو أن عامل الزمن وتعاقب الأجيال فعل فعله في تعديلها أو الإضافة إليها.

قصيدةٌ حب على الحروف الهجائية

القصيدة الشعبية ذاتها فيها اختلاف بين الرّواة، ولكن المُشترك هو بناء القصيدة، حيث أنها منسوجة على حروف الهجاء، فكل بيت يختص بحرف من الألف إلى الياء، والقصيدة مبنية على طريقة الأزجال والموشّحات الأندلسية، وهناك من غنّاها في النصف الأول من القرن العشرين بمنطقة تلمسان في طابع الحوزي الأندلسي، وقد يكون هناك من أعاد عناءها في طابع موسيقي آخر، مع بعض التعديل في كلماتها أو التصرّف في عدد أبياتها.

للقصيدة مرجعان مكتوبان، أما الأول فهو مخطوطةٌ بإحدى مكتبات سلطنة عمان، تُشير بأنها من ستّ عشرة بيتا، ومؤلّفها مجهولٌ، بينما المصدر الثاني هو كتاب «المغرب المجهول» للمؤلف «أوجست مولييراس» وترجمة للدكتور عبد الكريم الخطابي، إذ ورد في الجزء الثاني من الكتاب، في الصفحات 368 إلى 370 من طبعة 2007، إثباتٌ لبعض من أبيات القصيدة وإشارات حول حكاياتها، كما رواها أحد الدراويش للمؤلّف. وممّا جاء في القصيدة:

أصابني مرض الهوا

ولم نجد له دوا

إلاّ فؤادي قد كوى

من حب الريم المغناجي

بهاؤها حسنٌ جميل

ولم نر له مثيل

في ذا الزمان إلاّ القليل

في جيلنا ما يجي

تبارك الله تعالى

سبحانه عز وجلّ

خلقت في الأرض غزال

في مشيتها تترهوج

ثمرة النخل الباسق

وتسقى من ماء دافق

الخد أحمر كالعقيق

يغوي كضيَ الأرنج

جعفر وخالد والنبي

أحمد وداوود يا ربي

تغفر لأمي وأبي

مولاي وعدك وفضلك نرتجي

حتما نموت والحياة

تكون بعد الممات

من لا جرّب زهو البنات

يمشي عنّا ولا يجي

خفت يخالطني الهبال

وأنا ذنوبي كالجبال

دمعي على خدي زلال

ودافق وهابط يخرج

دبر وشاور واشطحوك

اسم كلام ابن ناشط

الحوت في بحر المحيط

يقسم بطون الأمواج

(...)

ريم لقيته يا غلام

لها عيون كالسهام

تضوي ككوكب في الظلام

حين استوت في الأبراج

قدٌّ لها يا غلام

تشفي المرض بالكلام

ولو كانت بيت الحرام

تسلب عقول الحجاج

كلّمتها بين الحيطان

قالت نعم يا أخي فلان

ما ننساك طول الزمان

وعدك وفضلك نرتجي 

(....)

هدّوا عليّ بالحديد

أحرارهم مع العبيد

قالوا اقتلوا هذا الوليد

وقتلوني وأنا صغير

يا غلام ابن الحمام

اتوني باثنين زعام

يمشيوا معي في الظلام

حتى نراها ونجي

إضافة إلى المصدرين المكتوبين، هناك من يحفظ القصيدة كاملة في الجزائر، وقد ذُكر لنا واحدٌ منهم ولكننا لم نستطع الوصول إليه، غير أننا التقينا بعض من يحفظون مقاطع منها، وهي تكاد تتطابق مع القصيدة التي أثبتها المؤلّف «أوجست مولييراس»، مع الاختلاف في بعض الألفاظ، وأما القافية والتشطير والنسيج حسب الحروف الهجائية، فهي ذاته.

هل هي حكاية من التراث المغربي؟

الذين قالوا بأن القصيدة وحكاية العاشقين من التراث المغربي اعتمدوا على الكتاب الذي أشرنا إليه سابقا، إضافة إلى بيتين يُنسبان إلى فقيه مغربي يُدعى «أبو الفيض الكتاني» (1873 - 1909)، وله كتبٌ منها: "اللمحات القدسية في متعلقات الروح بالكلية»، «حياة الأنبياء»، "المواقف الإلهية في التصورات المحمدية"، والبيتان على القافية ذاتها، وفي سياق المعنى والموسيقى الشعرية ذاتها، وليس هناك ما يفيد مناسبتهما أو حتى إن كان بغرض الغزل أو التصوّف، ويقولان:

أصابني حب الهوى

ولم نجد له دوى

ألا فؤادي قد كوى

من حب الريم المغنّج

يُحدّثنا «أوجست مولييراس» صاحب كتاب «المغرب المجهول» قائلا: "وكان من المفيد معرفة الشخوص التاريخية التي تُلمّح إليها القصيدة الصنهاجية، لكن الدرويش (راوي القصيدة للمؤلف) يجهل تاريخها، وعَرَضها عليّ كما حفظها قائلا: (بخصوص الباقي تدبّر أمرك، ولأنني لا أتوفّر على الخيط المُوجّه، فقد فضّلت عدم الخوض في هذه المغامرة المثيرة)".

يبدو أن المؤلّف قد شغَفته القصيدة، والدرويش الراوي يجهل تاريخها، ولو أنها كانت من صميم التراث الشعبي لتلك المنطقة لوجدَ «أوجست مولييراس» من يحفظون القصيدة ويعرفون تاريخها، لا سيما وأن الكتاب هو استكشافٌ للتاريخ والتراث المغربي عموما.

وإذًا كيف عرف «مولييراس» أن القصيدة صنهاجية، وتتعلّق بقصة حب بين ابنة أمير صنهاجي وابن عمّها؟ يُحدّثنا المؤلّف عن قرية اسمها «صنهاجة» وهي قريبة من جبل يحمل الاسم ذاته ويضمّ قبر العاشقة.

يقول «مولييراس»: "وبجبل صنهاجة.. يبدو قبر بنت الأمير الصنهاجي. هذه الأميرة المعشوقة التي سمحت للمنشدين الصنهاجيين بالتّغني بقصتها"، ولا يشير المؤلّف إلى العاشق الذي قُتل مع ابنة عمه ودُفنَا جنبا إلى جنب، فهل أغفلَ الإشارةَ إلى قبر العاشق، أم أنه لم يكن هناك سوى قبر العاشقة فحسب؟

الحكاية كمَا رَواها «مولييراس»

عن قصة الحب بين العاشقين، يُحّدثنا «مولييراس» قائلا:

كان العاشقان أبناء عمومة، وكان المُغنجي وحبيبته فاطمة يذهبان إلى المحاضرة (المدرسة الابتدائية) ويقرآن في اللوحة ذاته، وعندما انتبه المُعلّم إلى حميمية العلاقة بينهما، أجبر كل واحد منهما على قراءة جهة من جهتي اللوحة، فعملا ثقبا بها، وأخذا يتأملان بعضهما بعضا، فذهب الوشاة إلى أب المغنجي الذي كان أخا للأمير ووزيرا له وقالوا له:

إن ابنك لا يدرس بل يقضي وقته في الغناء، وجاء الوزير إلى المدرسة، وكان الطفل ينشد قصيدته عند حرف التاء وتهيّأ لحرف الجيم، عندما رأى أباه، ففتَر وقرّر استبدال البيت، ولهذا السبب طلب من الله تعالى في البيت الخامس بأن يغفر لأبيه وأمه باسم الرسول والصلحاء، ففرح الوزير، ورجع راضيا، وخاطب الجميع قائلا:

لقد كان يدعو لنا بالغفران، وجاء يومٌ فوجئ فيه العاشقان وهما في وضعية مريبة، فما كان من الأبوين القاسيين إلاّ أن ذبحا الطفلين، معتقدين بأنهما يطبقان التعاليم الدينية، وبالتربة الطرية التي دُفن بها العاشقان، نمت شجرتان، ستلتقي أغصانهما فيما بعد.. وحسب رواية أخرى، فبعد قتل الطفلين، أحرق الأبوان الجثتين بمحرقتين منفصلتين، لكن الدخان المتصاعد منهما، التقى في الجو وظل مُعلقا لمدة زمنية طويلة"، ويُذكر بأن هناك إشارة في هامش الصفحة 370 من كتاب «المغرب المجهول» تفيد بأن الشاعر ضمّن اسمه «المغنجي» واسم حبيبته «فاطمة» في أبيات القصيدة التي لم يُوردها «مولييراس».

تساؤلات حول حكاية «مولييراس»

سبق للمؤلف «مولييراس» أن قال بأن الدرويش الذي أملى عليه القصيدة، يجهل تاريخ الحكاية، وليس هناك إشارة لمصدر قصة الحب بين «فاطمة والمُغنَجي» سوى القصيدة ذاتها التي ليس فيها أيّ تفاصيل، ويُلاحظ القارئ، من خلال القصيدة، أن الأمر يتعلّق بطفلين في مدرسة قرآنية، وذلك لوجود اللوحة التي كانت وسيلة التعليم في كتاتيب تحفيظ القرآن، وفي الغالب، تلك المدرسة هي خاصة بالأمير وعائلته، فلم يُحدّثنا التاريخ عن كتاتيب "مُختلطة" لتحفيظ القرآن، إلى درجة أن فتى وفتاة يدرسان في اللوحة نفسها. ثم أن عمر الأطفال في الكتاتيب لا يتجاوز سنّ المراهقة للذكور، وأما الإناث فيكون أقل من عمر العشر سنوات، لا سيما بمعايير ذلك الزمن.

وإذا سلّمنا بما قاله المؤلّف «مولييراس» حول الدراسة "القرآنية" المُختلطة وقصة الحب بين طفلين وصلت بهما الحال في العشق إلى درجة الجلوس في "الوضعية المريبة"، فإنه من غير المعقول أن نُسلّم بأن طفلا يكتب مثل هذه القصيدة، بكل ما فيها من جماليات وصور شعرية وإحالات دينية ونسيج شعري على الحروف الهجائية، ثم هذه الإشارة بقتل الطفل في هذا البيت: "قالوا اقتلوا هذا الوليد/ وقتلوني وأنا صغير" التي تؤكّد بأن الشاعر شخصٌ آخر.

الحكاية الجزائرية

لن نتعمّق أكثر في قصةّ «مولييراس» فلا يُمكن للعقل أن يستوعبها ويتقبّلها، وفي المُقابل نجد بأن الرواية الجزائرية لقصة الحب هذه ما زالت متواترة ويحفظها بعض الناس إلى يومنا هذا. وهي تسند القصيدةَ إلى شاعر مجهول، ولا تحدّدُ زمنها، بل إنها تتضمّن إشارة إلى المكان الذي قيلت فيه، من خلال البيت «جعفر وخالد والنبي»، حيث أن جمع النبي الكريم مع اسمين آخرين يعني أنهما من الصالحين، ونعتقد أن الاسم الأول هو إشارة إلى الإمام «جعفر الصادق» سليل الدوحة النبوية، وهي إشارة إلى مُعتقد الشاعر الذي يبدو أنه كان شيعيا جعفريا، ونُذكّر بإشارتنا إلى أن مخطوطة لهذه القصيدة موجودة في إحدى مكتبات المخطوطات بسلطة عُمّان، ولهذا الأمر دلالاته لمن يريد تعمّقَ الدراسة في هذا الموضوع.

ثم أن الاسم الثاني في البيت الشعري يُشير إلى «خالد بن سنان العبسي» الذي اختلف المؤرّخون والعلماء إن كان نبيّا أو عبدًا صالحا، وتحمل إحدى المناطق التي كانت تابعة إلى ولاية «بسكرة»، وهي الآن تابعة إلى ولاية «أولاد جلال» اسمه، حيث تُسمّى «سيدي خالد»، وهي مدينة لها تاريخٌ عميق وتشتهر بفحول الشعر الشعبي، ونعتقد بأن صاحب القصيدة ينتمي إلى هذه المنطقة التي تزخر بالتراث الشعبي في الشعر والحكايات، ويُوجد بها ضريح «حيزية» وهي "بطلة" ملحمة العشق التي غنّاها أعمدة الغناء البدوي الجزائري.

أصَابني مرض الهوى

يُمكننا القول بأن قصيدة «المغنجي وفاطمة» هي مُجّرد أوراق لقصة، لا يقلبها عقل، مُهمَلَة في كتاب لمُؤلّف فرنسي يُدعى «أوجست مولييراس»، وليس لها وُجود في التراث الشعبي المغربي، بينما هي قصّة ما زالت حيّة في الجزائر، يرويها بعض شعراء الملحون و«الحكواتيون» في الجنوب الشرقي الجزائري، وقد غنّاها مُطربون جزائريون في الطابع الموسيقي «الحوزي»، وممّن أدّى الأغنية، تحت عنوان «أصابني مرض الهوى»، نذكر «الشيخ زوزو قنّون» (1888 وقيل 1885-1972)، ونعتقد بأن الأمر يحتاج إلى بحث ودراسة عميقة لاستكشاف مجاهيل التراث الجزائري وإعادة بعثه وإحيائه، ونشير إلى أن «فاطمة والمُغنَجي» هي التّسمية التي اخترناها عنوانا لقصة الحب والقصيدة على حدّ السوّاء، لما اقتضته دواعي الكتابة فقط، وليس لنا ما يُثبت أو يفيد بذلك.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار