2025.10.13
تقارير
العصر الفكتوري ... وراء الستار الوردي يأتي العرض المظلم

العصر الفكتوري ... وراء الستار الوردي يأتي العرض المظلم


اجتاحت منصة تيك توك مؤخرًا مقاطع ساحرة تستعرض رونق العصر الفيكتوري وجمال تفاصيله من أزياء وقلاع وحفلات اجتماعية وقصور، مما أثار إعجاب العديد من الفتيات. فتداولت هذه الفيديوهات بينهن على نطاق واسع، حيث علّقن على هذه المقاطع معبّرات عن تمنّيهن العيش في هذا العصر، حيث تعيش النساء حياة الترف والثراء ويُعاملن كأميرات، بعيدًا عن هموم الحياة اليومية وتعقيداتها. لنتفق أولا أن هذه التصورات المثالية ليست وليدة تيك توك بل هي نتاج تراكم طويل من الصور النمطية التي رسمتها و رسختها الانتاجات السينمائية و الأدبية عن العصر الفكتوري ففي هوليوود مثلا ، ولا سيما في الأفلام التي تُجسد أحداث العصر الفيكتوري، كانت تُصوّر النساء في صورة مثالية بعيدة كل البعد عن الواقع. في هذه الأفلام، يقتصر التركيز على الجمالية والأزياء، حيث يتم تصوير النساء في أدوار تحاكي حياة وردية، تُعرض خلالها الشخصيات النسائية في عالم هادئ يتنقلن فيه بين قصور فاخرة ويمارسن حياة من الرفاهية والترف، بينما تُنسَج لهن قصص حب رومانسية مشوقة. الأزياء الفاخرة، الحوارات الرقيقة، والمشاهد الحالمة هي ما يجذب انتباه الجمهور، لكن ما يُغفل هو حقيقة حياة النساء في تلك الحقبة، حيث كانت خياراتهن و حقوقهن محدودة . ومع أن هذه التفاصيل التي تعرضها الأفلام هي جزء من الحقيقة، إلا أنها تخص فقط الطبقة الأرستقراطية، فيما تم تصويرها على أنها الحالة العامة لجميع النساء . في واقع الأمر، هوليوود في العديد من أفلامها أهملت التفاوت الاجتماعي والاقتصادي الذي كان سائدًا في تلك الفترة. فلم يكن هناك تصوير دقيق للفقراء الذين كانوا يعملون في المصانع تحت ظروف قاسية، أو لنساء الطبقات الدنيا اللاتي كنّ يعانين من قيود اجتماعية خانقة. في المقابل، كانت الأفلام تركز فقط على النبلاء والأرستقراطيين. كان المجتمع في العصر الفكتوري مقسمًا بشكل صارم إلى طبقات اجتماعية متباينة، حيث كان هذا الفصل الطبقي يعكس فجوة كبيرة في الحياة اليومية بين الأغنياء والفقراء. الطبقات البرجوازية ، التي كانت تتمتع بالثراء والسلطة، عاشت في قلاع وقصور فاخرة، واستمتعت بحياة من الرفاهية . في المقابل، كانت الطبقات العاملة، بما في ذلك الفقراء الذين عملوا في المصانع أو في الخدمة المنزلية، يعيشون في ظروف قاسية، حيث كانت أجورهم زهيدة للغاية ولا تكفي لتغطية احتياجاتهم الأساسية. وكان النظام الطبقي يحدد بدقة مكان كل فرد في المجتمع، مما جعل من الصعب على أي شخص من الطبقات الدنيا أن يحقق تغييرًا جوهريًا في وضعه الاجتماعي. هذا التفاوت الطبقي انعكس بشكل كبير على المرأة، فإن لم تكن من الطبقة الراقية ، تجدها مقيدة بسلاسل من التقاليد الاجتماعية ، خياراتها وحريتها تُختصر في حدود ضيقة، لا يُسمح لها بتجاوزها. ففيما يخص العمل، كانت تُجبر على دخول ميدان العمل في المصانع والعمل لساعات طويلة تحت ظروف قاسية، ومع ذلك كانت تُدفع لها أجور ضئيلة تكاد لا تُذكر، وأقل من أجور الرجال، حتى وإن كان العمل نفسه أو أقسى قليلاً. أما التعليم، الذي يُعدّ أبسط حقوق الإنسان، كان بالنسبة لمعظمهن حلمًا بعيد المنال، إذ لم يكن متاحًا لكافة النساء، بل كان يُمنح لبعضهن و تحرم منه البقية. لكن في المقابل، كان تعلّم المهارات المنزلية شرطًا ضروريًا للفتاة لتجهيزها للزواج، كأنما وجودهن لا يتعدى حدود البيت والمطبخ. وحتى هذا الزواج كان في الغالب خطوة تحكمها مصالح العائلات واعتبارات اجتماعية، ولا يُترك للفتاة من خيار سوى الرضوخ. فكانت تُزوّج في سن مبكرة، وتُحرَم من طفولتها لتُفرض عليها مسؤوليات لم تكن تفقهها بعد. ومن ثم، كان الحمل والإنجاب هما المهمة الأولى التي تُطالَب بها فور دخولها عالم الزوجية. أما الطلاق، فكان يُعتبر فضيحة اجتماعية وعارًا للعائلة وفي العصر الفكتوري ، لم يكن الحق في التملّك من نصيب النساء. فلقد كانت الأرض والممتلكات تُعتبر ملكًا حصريًا للرجل، سواء كان الأب أو الزوج أو الأخ. وحتى في الحياة السياسية، لم يسمح للمرأة بأن تتقلد المناصب أو أن تشارك في اتخاذ القرارات السياسية ، فلم لم يكن لها الحق حتى في التصويت. ولا يقتصر الجانب المظلم من العصر الفكتوري على معاناة النساء فقط، بل له جانب دموي أيضًا يشمل الحركات الاستعمارية التوسعية التي كانت في أوجها خلال هذه الحقبة. فقد شهدت بريطانيا في هذه الفترة ذروة إمبراطوريتها الاستعمارية، حيث استطاعت خلال حكم الملكة فيكتوريا السيطرة على خُمس مساحة اليابسة الموجودة في الكرة الأرضية. كانت هذه السيطرة تنطوي على قمع وقتل واستغلال مروع للشعوب الأصلية، إذ تم نهب الموارد الطبيعية وفرض هيمنة اقتصادية وثقافية على تلك المناطق. هذا التوسع الإمبريالي كان جزءًا لا يتجزأ من الحياة الاقتصادية والسياسية في بريطانيا، التي حاولت إخفاءه من خلال بريق الأدب والسينما. إن الوعي النقدي هنا هو أداة أساسية لفهم ما يُعرض لنا عبر وسائل الإعلام، بما في ذلك السينما. فيجب أن نتعامل مع ما نشاهده بعقلية ناقدة، ألا نأخذ كل ما يُعرض على أنه حقيقة مطلقة، بل أن نتساءل عن السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي قد تُغفل أو تُشوه. و من أبرز آثار الصورة النمطية التي تروج لها هذه الأفلام هو تعزيز التبعية الفكرية التي تُسهم في تقديس كل ما هو غربي. هذه النظرة تعزز في الكثير من الأحيان شعورًا بالانبهار بما هو خارجي، في حين يُتهم كل ما هو محلي أو عربي بالإفلاس الثقافي ، فمجتمعاتنا العربية والإسلامية تملك تاريخًا معماريًا وحضاريًا يعكس عظمة وتفردًا لا يضاهى. ففي الحضارة الإسلامية نجد معمارًا يشهد على جمال العمران العربي والإسلامي، والذي يمزج بين الجمال الروحي والوظيفي، حيث يتجسد في المساجد، القصور، الأسواق، والمدن القديمة التي تنبض بالحياة. هذا العمران ليس مجرد ماضٍ منقضٍ، بل هو إرث حي يجب أن نفتخر به ونسعى إلى تعزيزه، بدلاً من إغفال قيمته أو التعامل معه من خلال عدسة استشراقية مُحرّفة. وعلى سبيل المثال، يمكننا الاستناد إلى واقع القصور التاريخية في إسبانيا مثل قصر الحمراء في غرناطة، الذي يعتبر أحد أهم المعالم السياحية في إسبانيا، حيت يتوافد إليه ملايين السياح سنويا، وعلى الرغم من الإهمال الذي تعرّض له لسنوات عديدة، فإن المبنى تمكّن من مواصلة الحفاظ على جماليته الفريدة وزخارفه الأصيلة التي تعكس جمال وعراقة العمارة الأندلسية، وصمد كواحد من كنوز العمارة الإسلامية التي تعكس مهارة الحرفيين المسلمين في القرون الوسطى. إن تاريخنا وثقافتنا يمتلكان من الجمال والتفرد ما يمكن أن يقدمه للعالم بأسره. ونحن مطالبون اليوم بأن نعيد اكتشاف هذه الجواهر المعمارية ونفخر بإرثنا، بدلاً من السعي وراء نماذج قد لا تعكس حقائقنا أو ثقافاتنا. إن التقدير الحقيقي للحضارات لا يتطلب الانبهار بالمظاهر فقط، بل يتطلب أيضًا فهما عميقا وغوصا في تفاصيل مراحلها وتنوّع واختلاف مساراتها.

يتصفحون الآن
أخر الأخبار