كثيرةٌ هي الكتاباتُ حول تاريخ المسرح الجزائريِّ، غيْر أنَّنا سنُطِلُّ على بعضِ زواياه من خلالٍ حوارٍ أُجرِيَ مع رائِدٍ من رُوَّاده وهو الفنَّان الموسوعي "محي الدين باش طرزي" (5 ديسمبر 1897 – 6 فيفري 1986)، المَسرحيُّ والكاتِبُ والموسيقيُّ والسينمائيُّ.. ذاكرةٌ فنِّيَّةٌ اسْمها "باش طرزي" اختلفتْ المصادرُ في كتابة اسم هذا الفنَّان العملاق، فهل هو: بشطارزي أو بشتارزي أو باش تارزي...؟ وسنعتمدُ الاسمَ كما ورَدَ في الحوار: "باش طرزي"، لاعتقادنا بأنَّ مَنْ أجرى الحِوارَ، وهو الأديب والإعلامي السُّوري "فؤاد ديب الشايب" (1911- 1970)، ما كان ليكتب الاسمَ "محي الدين باش طرزي"، لو لمْ يستَشِرْ الفنَّانَ ويتأكَّد من شكْل كتابة الاسم. "باش طرزي" "اعتاد أنْ يُدوِّن مُذكِّراته يومًا بيومٍ في دفاتر خاصةٍ وذلك منذ عام 1919"، ثم أصْدَرها في ثلاث مُجلَّداتٍ، ولعلَّها تُمثَّل أكبر مَصدرٍ لتأريخ المسرح الجزائري، إضافةً إلى ما جمَعَه - على امتداد أكثر من نصف قرْنٍ - مِن "قُصاصات الجرائد العربية (تونسية ومصرية) والفرنسية التي تتحدَّثُ عن نشاط الفنَّانين الجزائريين، إنْ كان قدْحًا أو مَدحًا".. ولسنا نعلمُ مَصير هذا الرَّصيد الوثائقي، ولعلَّ المُختصِّين وأهل المسرح والفنون في الجزائر يمتلكون الإجابة. إضاءاتٌ حول الحِوار.. يكشفُ لنا الحوار مع الفنَّان "محي الدين باش طرزي" بأنَّ الانطلاقةَ الحقيقيَّة للمسرح الجزائري كانتْ في 1920، حيث قال: "ولم تبدأ المحاولاتُ المسرحِيَّةُ الجدِّيَة إلاَّ حوالي عام 1920"، وقبْل هذه السنة انحصرتْ الأعمال في "بعض "الاسْكتشات" الهزلِيَّة القصيرة". وقد كانتْ مُعظمُ الأعمال المسرحيَّة "الجادَّة" باللغة العربيَّة الفُصحى، وينحصرُ تَقديمُها في مدينة الجزائر خاصَّةً، حيث كان "جمهورُنا مُؤلَّفًا من تلاميذ المدارس الإسلامية والمثقفين". كما أنَّ "باش طرزي" كان يقوم بالأدْوار النِّسائيَّة في المسرحِيَّات، حتى كتَب "مؤلِّفٌ جزائري مسرحيةَ (البديع) وهو: محمد علي طاهر الشريف، فأسْند إليَّ أول دَوْر رجالي". وقد بقِيَ المسرحُ الجزائريُّ نُخبويًّا يتوجَّه إلى حوالي ثلاثمائة مُتابعٍ إلى أنْ "حرَّره" الكاتِبُ "على السَّلالي" فصار جماهيريًّا يُخاطبُ الشَّعبَ الجزائريَّ بلغته، وتُعرَض مسرحياته في المُدن والقُرى الجزائريَّة، قال "باش طرزي": "وفي عام 1924، كتَب السيد (علي السلالي) مسرحيةً بعنوان (جحا)، جَمَع فيها أقاصيص هذه الشخصية الشَّعبية وقدَّمَها في مسرحِيَّةٍ باللغة الدَّارِجَة. فقدَّمناها، فلاقتْ نجاحًا باهرًا، إذْ امتلأتْ صالةُ (الكورسال) مع أنَّها تحتوي على ألف ومائتي مَقعدٍ". تحدَّث الفنَّان "محي الدين باش طرزي" عن تحوُّل المسرح الجزائري ودخوله مرحلةً جديدةً مع ظُهور الفنَّان "رشيد قسطنطيني" الذي كان "بحَّارًا جالَ بلاد العالَم" بالإضافة إلى مِهنٍ أخرى. ثم ظُهور امرأةٍ جزائريَّة تقوم بالدَّور النسائي، في عام 1935، وهي "عائشة بورورو، وهي من مدينة البليدة، ولم تكن في ذلك الحين قد تجاوزتْ الخامسة عشر من عُمرها، وأطلقتْ على نفسها فيما بعد اسم: كلثوم".. كما تحدَّث "باش طرزي" عن أمورٍ أخرى، سيكتشفها القارئُ في الحوار الذي نَقلناه عن المجلة الثقافية الشَّهرية "المعرفة" التي كانت تصدرُ في "سوريا"، مِن العدد الذي نُشِر في الأول من شهر أكتوبر 1964، وقد أجرى الحوارَ مع "باش طرزي" في "باريس" رئيسُ تحرير المجلة "فؤاد ديب الشايب"، وكان العنوان: "مقابلة المعرفة مع رائد المسرح الجزائري".. "المعرفة" السُّوريَّة تُحاورُ "محي الدين باش طرزي" نشأ المسرحُ العربي في الجزائر في ظروفٍ صعبة وقاسِيَة نظرًا لِمَا كانت الثقافة العربية تُعانيه من ضغط الاستعمار، ومحاولته القضاءَ على كل أثرٍ للحضارة والثقافة العربيتين فيها. ولكن الشعبَ الجزائري استطاع بفضل جهاده المُستمِيت المتواصل أنْ يُثبِّت دعائمَ هذا الفن في أرض الجزائر، ويُنمِّيه ويُغذِّيه حتى أصبح اليومَ شجرةً باسِقةً وارِفَة.. إذا ذُكِر المسرحُ العربي الجزائري، ذُكِر اسم الأستاذ "محي الدين باش طرزي".. ولقد وجدتُ صعوبةً جَمَّة للاجتماع به، فهو يعيش في عزلةٍ تامة في ضاحية باريسِيَّة (كليشي)، وينعكفُ لتدوين ذكرياته عن المسرح، يساعده في ذلك الكاتب الفرنسي "عمانويل روبليس"، وستنشر المُذكِّرات بالفرنسية في دار "سويل" بباريس. وهي تحوي على معلومات دقيقة لأنَّ الأستاذ "محي الدين" اعتاد أنْ يُدوِّن مُذكِّراته يومًا بيوم في دفاتر خاصة وذلك منذ عام 1919. وقد اطلعتُ عليها فهالني هذا الاهتمام الغريب وذلك الحرص المُتفاني على تأريخ الحركة المسرحِيَّة، كما أنَّه جمَع كل قُصاصات الجرائد العربية (تونسية ومصرية) والفرنسية التي تتحدَّثُ عن نشاط الفنانين الجزائريين، إنْ كان قدْحًا أو مَدحًا. في مَكتبِه الهادئ الخاص بالكُتُب عن المسرح باللُّغتيْن العربية والفرنسية، جلس الأستاذ وراء مِنضدته، يتحدَّثُ إليَّ ويجيبُ عن أسئلتي.
-
كيف بدأتُ المحاولات المسرحِيَّة الأولى في الجزائر؟
-
ولكن كيف بدأتَ حياتَك؟
-
ومن هو رشيد؟
-
وكيف انْحلَّتْ مشكلةُ العنصرِ النِّسائي؟
-
كيف كان موقفُ المُستعمِرين من أعمالكم الفنِّيَة هذه؟